samedi 19 mars 2011

محمد عبد المسيح كوهين..!!

تحذير:شخصيات هذا العمل من نسج خيال المؤلف ولا علاقة لهم بالواقع وأي تشابه بين الشخصيات الرئيسية في هذا العمل الخيالي وشخصيات على أرض الواقع يؤكد أن مصر بخير.


تتحرك يديه في الظلام بحثاً عن ذاك المنبه المزعج الذي يُوقظه كل صباح،يطفئه، يفتح عينيه الثقيلتين بصعوبة وينظر للسقف مطولاً ،ثم يقوم ويرفع الغطاء عن نصفه الأعلى ويحك صلعته الخالية من الشعر قبل أن يوقظ زوجته النائمة لتحَضِر له الشاي حتى يستعد للذهاب لعمله.

هو، (مجدي محمد عبد المجيد البغدادي)، السن إثنان وخمسون سنة، شهرته هي (مجدي البغدادي)، متزوج من (فاطمة) ذات الخمسة والأربعون من العمر، من يلاحظها يدرك إنها كانت على قدر من الجمال في شبابها لكنه الزمن بعد ولادة أبناءها الأربعة، أكبرهم (سليم البغدادي) طالب في كلية الحقوق جامعة القاهرة، يليه (سالم البغدادي) أولى حقوق جامعة عين شمس، أما الثالث فهو (صابر البغدادي) الذي يدرس في الصف الثالث الإعدادي بمدرسة حكومية قريبة، وتنتهي السلسلة بـ(نهى) أصغرهم وألطفهم وأيضاً أشقاهم التي لم تتخطى بعد الصف الثالث الإبتدائي.

تقوم (فاطمة) متكاسلة من السرير، تبحث عن خُفيها في الظلام، وتنطلق بهما لتبدأ يوم جديد. تضع البراد الإستانليس على بوتاجاز أربعة عيون بدون فرن، وتبدأ في تنظيف الصالة التي هي عبارة عن ممر تتوسطه أريكة تسمح بمرور شخص واحد فقط بجانبها، وتطل على غرفتين جهة اليمين والمطبخ والحمام جهة الشمال، تبدأ في إزالة كتب (سليم) التي نسى وضعها في غرفته ، وإخفاء أعقاب سجائر (سالم) خوفاً من أبيهم أن يعرف، وتبدأ في الكنس.

يخرج (مجدي البغدادي) من السرير بعد مرور خمسة عشر دقيقة من نهوض زوجته، يبحث عن خُفيه وينهض بسروال منامته الواسعة ليغير ملابسه إستعداداً لذهابه إلى العمل.
يعمل (مجدي البغدادي) في مصلحة الأحوال المدنية التابعة لقسم شرطة الشرابية، فهو مسئول عن إستخراج بطاقات الرقم القومي، ومن الواضح أن دخله لم يساعده إلا على إحضار شقة في عقار رقم2 حارة محمد السايح المتفرعة من شارع الآلايلي قرب شارع مهمشة.

يخرج (مجدي) من الغرفة ليجد (فاطمة) منهمكة في تنظيف الصالة، يسألها عن الشاي، لتكتشف أنها نسيت الشاي على النار طوال هذه المدة فتترك كل شئ لتصب المياه حتي  لا يطين عيشتها.

يأخذ (مجدي) الشاي ويقف في الشرفة، يشعل السيجارة  الكيلوباترا ويأخذ نفساً عميقاً ليخرجه ويأخذ نفساً أعمق، ينظر إلى شارع الآلايلي الساكن في هذا الوقت من اليوم، ويشاهد بائع الحليب ذو الجلباب الرمادي يمر بعجلته ذات الجرس الذي يشعره صوته بأن الدنيا مازالت بخير.

يخرج إلى الشارع ويتجه إلى شارع مهمشة وصوت زوجته في عقله يُذَكِره بمصاريف درس (صابر)، يتداخل مع صوت وقع قدميه على الأرض الأسفلتية، يشير إلى الماكروباص، يركبه، ولكنه لايجد مكاناً للجلوس فيلزم الوقوف حتى ميدان المركبات عند النافورة المُهداة من شركة ألومونيوم الجوهرة، وينزل ليستقل  ماكروباص آخر يتجه به إلى قسم الشرطة متخذاً شارع الشرابية الرئيسي، حتى ينزل بعد  الفتحة الموجودة في جدار السكة الحديد التي أُعْتُبِرَتْ محطة نزول.

ينزل ويعبر الشارع ليصل إلى القسم، ويطلب من (عم عبده) المعتاد كل يوم
شندوتشين فول والنبي يا (عم عبده) الله يكرمك، خلي الواحد يعرف يصطبح
يحب البعض مناداة (عم عبده) بـ (أبو البشمهندس) أو (البشمهندس) نظراً لتفاخره الدائم بإبنه الذي إلتحق مؤخراً بكلية الهندسة جامعة الزقازيق. هو رجل في العقد السادس من عمره، يرتدي زي السعاة الرمادي وكثيراً ما يقدم خدمات للمواطنين لمعرفته الشخصية بالموظفين، في مقابل مادي.

يذهب (عم عبده) ليُحضِر المطلوب، في حين يتجه (مجدي) إلى الدَرج الخالي من الدرابزين وفي نهايته يستند على الحائط ذو اللون الحكومي الأصفر، الذي يكسوه طبقة من الجير، ليستريح من مجهود صعود السلم، ينسل داخل غرفة ذات سقف منخفض تتدلى منه مروحة معطلة، يُحَيي مدام (سناء) زميلته التي ترد عليه بلا مبالاة، شبه ناعسة، من خلف مكتبها العامر بالأوراق الصفراء المكدسة، يذهب خلف مكتبه، يحرك المقعد إلى الوراء قليلاً حتى يفسح مجالاً لكرشه الصغير، يأتي له (عم عبده) بصينية عليها  شندوتشين من الفول وأربع اعودة من البصل الأخضر، وينهي بكوب من الشاي الثقيل  لـيحبس به.

يبدأ (مجدي) يومه الطويل بين أشخاص ناضجين، وأشخاص ساذجين، بين من عنده كل الوقت في العالم وبين من يعتقد إنه سوف يموت غداً، بين من يعرف الأوراق والإستمارات المطلوب إحضارها وبين من لا يعرف وينتظر في طابور طويل ليكتشف أن أهم المستندات ليست معه فيضطر في كل مرة تسميع كافة المستندات المطلوبة على العميل

صورة ضوئية لشهادة الميلاد ان وجدت.
اعتماد المهنة من النقابة المختصة لاصحاب المهن النقابية.
تقديم خطاب التأمينات للعاملين بالقطاع الخاص.
إرفاق صورة ضوئية لشهادة السجل التجاري الساري وبعـد الاطـلاع عـلى الأصل لاصحاب النشاط التجاري.
إرفاق صورة ضوئية من المؤهل الدراسي ( بعد الاطلاع على الأصل ) فى حالة إثبات المؤهل الدراسي.

شهادة الميلاد المميكنة:
نموذج 40، طلب وثيقة أو مستند
السعر: 7 جنيهات شاملة سعر النماذج والطوابع

إلى أخره، وما أن ينتهي من سرد الشروط حتى يظهر له شخصٌ اخر يحتاج معرفتها، فينفجر في وجهه إنها معلقة عند المدخل بالأسفل، وإنه غير مُجبر على تسميع الشروط لكل مغفل يأتي إلى هنا، فتنشب مشادة لا يخمدها إلا (عم عبده) بتدخله السريع وتهدئة الموقف، ثم يذهب ويحضر له كوب من الشاي الثقيل مع السيجارة  الكيلوباترا ليريح أعصابه ويستأنف العمل.

بعد إنتهاء (مجدي البغدادي) من عمله كل يوم، يستقل الماكروباص من أمام القسم، ليأخذ طريقه في شارع الشرابية وينزل أمام محطة مترو (غمرة) ويمشي في شارع المينياوي الهاديء حتي يصل عند تقاطعه مع شارع حسني الضيق، ليشتري إحتياجات البيت ثم ينطلق متجهاً إلى البيت ويستريح، لكن اليوم نهايته مختلفة.

قُرب إنتهاء ساعات العمل الرسمية، اقترب منه شاب في السادسة عشر من عمره، على قدر من الوسامة، يميل شعره الغير مهندم إلى اللون البني، بينما يغطي النمش بشرته الفاتحة، يدل هندامه على إنه من النوع الذي إذا اقترب منك في الشارع فأنت تتوقع ما سيؤول إليه شكل المحادثة، إنه شاب يستعطى بلا شك، لكنه هنا يتقدم وفي يده أوراق إستخراج بطاقة الرقم القومي، يتركها على المائدة بدون سابق إنظار أو حتى كلمة، ثم يبتعد وكأنه سلم الواجب وينتظر تصحيح المدرس.

يقرأ (مجدي) الورق ليجده فارغ، يرفع نظره إلى الشاب حتى يوبخه فيسبقه الشاب بالكلام
- ما عنديش حد يملاهولي، أنا لوحدي
ينظر (مجدي) إلى الورق متفهماً الموقف، ويفكر إنه في اخر ساعات العمل، ولا مانع من مساعدة صبي، بجانب الحصول على إستراحة من مهامه، يطلب له كرسي ويجلسه بجانبه، يمسك القلم ويبدأ بالأسئلة
-     اسمك إيه؟ 
-     محمد
-     اسمك واسم ابوك واسم جدك يا ابني 
يتردد الولد ثم يجيب دون أن ينظر في وجه سأله
-     محمد عبد المسيح كوهين
يبتسم (مجدي(
-     شوف انت جاي لي في اخر اليوم، وأنا قرفان، وقلت أساعدك حِنِية مني، لكن هتهزر... 
-     أنا مش بهزر، أنا اسمي (محمد عبد المسيح كوهين
-     طب يلّا ياد يا ابن الكلب انت من هنا 
يطرده (مجدي) بعصبية تنم عن إحساسه بإنه تم الإستهانة بذكاءه، مشيراً إليه بألفاظ قذرة، وبعد أن يمشي يتدارك نفسه ويجلس على مكتبه، يشعل السيجارة  الكيلوباترا ويكمل ما بدأه من عمل.

تمر هذه الحادثة ولا يتذكر (مجدي) عنها شيء، إن كان نسيها أو تناساها، ولكنه يرى وجه ذاك الصبي في اليوم الثالث ينتظره في الجهة المقابلة للقسم ساعة خروجه، ينظر إليه (مجدي) ويتذكره، ينادي عليه، فيأتي
-     عايز إيه؟
-     انا عايز أعمل البطاقة 
-     طب ما أنا قعّدتك بإحترامك عشان أعملها لك، بس لو كان في إحترام بس، مش كانت خلصت؟
-     حضرتك أنا ما غلطتش، حضرتك سألتني على الاسم وأنا رديت 
-     حلوة حضرتك دي، وانت بقى اسمك محمد ايه قلت لي؟ 
-     محمد عبد المسيح كوهين 
-     تاني؟ طب امشي يا ابني الله يسهلك 
-     استنى... 
يتركه (مجدي) ممتقع الوجه من ذلك المدعو (محمد عبد المسيح كوهين)، ليأخذ نفس طريقه المعتاد للبيت، مروراً بشارع المنياوي الهاديء ثم شارع حسني قبل أن يتجه أخيراً إلى البيت بحارة محمد السايح المتفرعة من شارع الآلايلي.

هذه المرة يحكي (مجدي) لزوجته عن الشاب، دون أن يذكر لها اسمه، يحكي فقط باقي التفاصيل، إنه شاب لا حول له ولا قوة، ولا قريب له ليساعده لكنه من قلة الذوق ان يستخف به كل مرة، تسمعه زوجته وهي تنتقي الأرز أمام التلفاز وتنصحه ان يزجره في المرة القادمة التي يراه فيها، حتى لا يوجع دماغه، وهو ما قرر فعله.

يذهب (عم عبده) إلى العمل كل يوم مبكراً عن أياً من الموظفين، يكنس الأرض، يمسح المكاتب والذي منه، ويجلس في النهاية عند ناصية القسم ينتظر الموظفين. يقترب منه شاب ذو شعر غير مهندم، يغطي النمش وجهه، مرتدياً ملابس رثة، ويمد يده بوريقة مطوية تعلوها ورقة من فئة العشرة جنيهات ويطلب منه بإقتضاب أن يعطي هذه الوريقة للأستاذ (مجدي محمد عبد المجيد البغدادي)، وينصرف سريعاً.

يظهر (مجدي البغدادي) ويحي (عم عبده) ويطلب منه المعتاد ولكنه يناديه
-     يا أستاذ (مجدي)، في شخص ساب لك الورقة دي 
يأخذها منه ويفتحها ليجد فيها كلمات مكتوبة بخط منمق جميل " أنا في حاجة إلى مساعدتكيسأله عن الشخص، ليصف (عم عبده) مواصفات (محمد عبد المسيح كوهين) فيتعكر مزاج (مجدي) ويطلب من (عم عبده) أن يحضر له كوب الشاي الثقيل فقط.

يصعد الدَرج ويدخل دون أن يحيي مدام (سناء)، يجلس على مكتبه ويطوي الوريقة ويضعها في دُرج مكتبه، عاقد النية على ألا يفكر فيها، ليجلس طوال اليوم يفكر في الوريقة، و(محمد)، وسخريته منه، وبين الحين والأخر يعمل، وينتظر إنتهاء ساعات العمل بفارغ الصبر مثل التلميذ الذي ينتظر إنتهاء الحصة السابقة للفسحة، يخرج يمعن النظر في الشارع فلا يجده، ينتظر قليلاً ثم يقرر الرحيل معتزم نسيان كل شيء عن الموضوع، ويسلك شارع المنياوي ليجد الفتى عند تقاطعه مع شارع حسني، يقرر أولاً أن يزجره كما نصحته زوجته، ولكنه يعدل عن ذلك إذ أن الفضول تملكه أكثر من الإنصياع لنصيحة زوجته.

يشير إليه أن يأتي، فقبل كل شيء (محمد) هو الذي يحتاجه، ولكن (محمد) ينظر له مطولاً ولا يحرك ساكناً، فيتحرك (مجدي) بنفسه متجهاً إليه
-     عايز إيه؟ 
-     محتاج تساعدني أعمل بطاقة، وقبل ماتقاطعني، أؤكد لك اسمي الحقيقي هو (محمد عبد المسيح كوهين(
-     طيب ما إزاي يا ابني يكون في حد اسمه (محمد عبد المسيح كوهين)؟ ما هو يا (محمد) يا (عبد المسيح) يا (كوهين)، لكن ما تجيش كده أبداً 
-     أنا محتاج إنك تكتبني كدة وخلاص، أنا فاقد الأهلية، فمفيش اللي يثبت اسمي أو عدمه 
 هنا يتذكر (مجدي) أن عليه أن يشتري بعض المشتروات من السوق فيقرر أن يصطحب معه (محمد) حتي يزيح عنه الحمل قليلاً
-     طيب تعالى معايا، المهم، يعني أكتب إيه في خانة الديانة؟ 
يرد (محمد) بمنتهى البساطة
-     ولا حاجة... 
 يتوقف (مجدي) لينظر إليه
-     يعني إيه ولا حاجة ؟ 
-     يعني ولا حاجة، سيبها فاضية دلوقتي 
-     ما ينفعش 
-     ليه ما ينفعش؟ 
-     القانون كدة 
-     وهو مش هو هو نفس القانون اللي بيكفل حرية العقيدة؟ أنا بقى مش عايز أكتب ديانتي 
-     الكلام ده يا ابني ما ينفعش 
-     حط شَرطة 
-     ما ينفعش 
-     هو إيه أصله؟ كله ما ينفعش ما ينفعش، أُمال إيه اللي ينفع؟ 
-     انك تكتب مسلم في خانة الديانة 
-     أنا مش مسلم 
-     بقى انت يا  )محمد) مش مسلم؟إزاي؟ 
-     خلاص خلاص خلاص ما لكش دعوة 
يتركه (محمد) حائراً في كفر هذا الولد، فـ(مجدي) لا يستطيع مساعدته،  لايفهم دوافعه، ولا يفهم (محمد) غير المسلم. يتجه (مجدي) إلى البيت بعد تلبية طلباته، يمر على العجلاتي عند تقاطع شارع سليم صعب وبيباوي برسوم متخطياً كنيسة القديسة بربارة ليصل إلى شارع الآلايلي متمنياً أن ينتهي الشارع سريعاً ليتخلص من الحمل.

يقابله (مجدي) عند ناصية شارع لبيب جيد أمام معرض المليجي لتأجير السيارات، فيتجاهله ويكمل مسيرته، فيصرخ (محمد)
-     فيك من يكتم السر؟ 
يتوقف (مجدي) ويستدير بصعوبة لثقل الحمولة على يده، فيجد أن المنجد وصاحب محل الردياتيرات والمكوجي ينظرون لـ(محمد) منتظرين حدوث مشادةً ما ولكنهم يغضون النظر حين يقترب (مجدي) منه ويحدثه بهدوء.
-     وبعدها لك يا ابني 
-     تعالى نشيل اللي في ايدك في البيت الأول ونقعد نتكلم 
يتقاسموا الحمل دون كلمة اخرى، يتجهوا إلى البيت، وينتظر (محمد) حتى ينزل (مجدي) فارغ اليدين، ويصطحبه (مجدي) ليشتري علبة سجائر قبل ان يجلسوا على أقرب قهوة من البيت.

يأتي صبي القهوة ويسألهم عن طلباتهم دون أن ينظر لهم ، فيطلب (محمد) كوب من الينسون بدون سكر، في حين يطلب (مجدي) كوب من الشاي الثقيل، يرشفه ببطء في إنتظار (محمد) ليبدأ الكلام.

يميل (محمد) ويتلفت حوله ليتأكد أن أحداً لا يسمعه، ويبدأ الكلام بهمس
-     أنا مصري... 
-     وأنا لسة راجع من الشغل وتعبان 
-     لأ، أنا عايز أقول إني مصري زييّ زيك، لكن مش من هنا، من بعيد، من قدام، من المستقبل يعني 
يرشف (مجدي) رشفة الشاي الأخيرة بلا مبالاة ويقوم ليرحل وكأنه لم يسمع شيئاً، فينقض عليه (محمد) ويمسك ذراعه بإصرار طالباً منه أن يسمعه وإن لم يعجبه الكلام، يرحل في أخره، ينظر (مجدي) إلى الإصرار في عينييّ (محمد) ويفكر بالإنصياع لنصيحة زوجته، لكن بعد الإستماع إليه حتى ينتهي الكلام بينهما ولا يجده في طريقه مرة اخرى، فيجلس ويطلب كوب آخر من الشاي الثقيل ويشعل سيجارة، ويبدأ في الإستماع إليه دون النظر إليه، وكلما تكلم (محمد) كلما تأكدت عنده فكرة، أن (محمد) هذا مختل عقلياً.
-     أنا من المستقبل ومش ضروري في عصركم ده تعرف أنا جيت هنا إزاي، المهم إني جيت ومش هأعرف أرجع، عشان كدة أنا بحاول أعمل بطاقة عشان أعيش وأستقر هنا 
-     مممممم 
-     إحنا في زماننا بنعمل البطاقة على سن الـ14 ومش بنكتب فيها الديانة لحد سن ال20، يكون الوحد كبر وقادر يختار دينه بنفسه، فيعمل تعديل بيانات ويزود ديانته في خانة الديانة 
-     هههههه 
-     أنا معايا البطاقة بتاعتي دلوقتي، تحب تشوفها؟ 
و مد يده إلى جيب المحفظة لكن (مجدي) زجره ألا يخرجها، إذ إنه من الواضح إنه مختل عقلياً فلا داعي لمواجهته بذلك وزيادة الطين بلة حين يدّعي إنه فقدها ويؤكد أكثر على وجودها.
-     لا، ما فيش داعي 
-     في ناس في زمنكم بيشجعوا إلغاء خانة الديانة من البطاقة، لكن إحنا واعيين إن الديانة بتمثل جزء من هويتنا، بس كمان لازم نختار هويتنا بنفسنا لأن ده هيحدد مستقبلنا، فإحنا مش بنلغي الخانة، إحنا بس بنأجلها لحد سن الرشد الـ20 في زماننا والواحد يختار..بس..الموضوع بسيط أنا بس بطلب تأجيل كتابة الديانة لإن ده اللي اتربيت عليه وده اللي أنا فاهمه... 

قاطعهم شخص في وسط الحديث ليحيي (محمد) منادياً إياه (دوحة)، فيفوق (مجدي) من نعسه ولا مبالاته ويقوم فيمسك به ويسأله إن كان يعرفه حقاً، حتى يرسله إلى أهله، وينتهي منه.
-     انت تعرف (محمد)؟
     -(محمد) من يا بيه؟ ده (دوحة) اللي ساكن في الحِكر ورا، جديدة (محمد) دي، هو عملها فيك يا بيه؟
 ويتركه بين غائب وحاضر، هل هو وقع ضحية محتال أم أمام متأخر عقلياً يفيض عليه من تخيلاته؟ لم يعرف غير إنه هجم عليه وأمسكه من ذراعه ليجره إلى منطقة الحِكر في أخر شارع حسني ويسأل عن أهله، لكنه قاوم
-     يا أستاذ (مجدي) أنا صحيح قاعد في الحِكر والناس عارفينني باسم (دوحة)، بس ده مؤقت بس لحد ما استقر، صدقني، عشان كدة أنا بعمل البطاقة..أنا فعلاً من المستقبل 
فيصفعه (مجدي) على وجهه، ويشد بذلك إنتباه كلٍ من المنجد وصاحب محل الردياتيرات والمكوجي إلى المشادة التي كانوا يتوقون إليها.
-     لسة بتكدب يا ابن الكلب؟ لسة بتكدب يا ابن الكلب؟ 
ينتظر التفرجون قليلاً قبل أن يتدخلوا بفض المشادة والسؤال عن سببها، ينهيهم (مجدي) عن معرفة سببها بحجة إنه ليس من شأنهم، فيتملص منه (محمد) ويقف فوق سيارة عارضاً مطالبه، من حرية إختيار دينه في سن مناسب، ومطالبته بحجب خانة الديانة مؤقتاً حتى يبلغ سن ال20، وعن رفض الأستاذ (مجدي) لطلباته، وعرقلة تسيير إستخراج بطاقة الرقم القومي له.

يتكلم (محمد عبد المسيح كوهين) جاهراً بمطالبه وسط سباب الواقفين ومطالبته بالنزول من فوق السيارة، يتكلم (محمد عبد المسيح كوهين) بين الركل والضرب والإشارة إليه بالكفر من جانب المسيحيين والمسلمين معاً، يستلقي (محمد عبد المسيح كوهين) بين دماءه النازفة ومحاولات (مجدي) للدفاع عن هذا المسكين الذي يعاني من تأخر عقلي، ولكن محاولات (مجدي) كلها باءت بالفشل، وتحقق هدف الضاربون بإسكاته.. للأبد.

فور أن سكنت حركته حتى ابتعد من ابتعد وتبقى من تبقى من الذين ينعون حال الشاب الذي مات صغيراً ضحية لأفكاره الكافرة الطائشة. بكى (مجدي البغدادي) كما لم يبك في حياته، على صبي قُتِل بسبب جهل الخَلق في التعامل مع حالات التأخر العقلي وأخْذ كلام هذه الحالات على محمل الجد. بدأ يفتش في جيوبه، لعله يجد ما يدل على عنوانه حتى يسلمه لأهله، فتح محفظته ووجد أوراق وبطاقات لشركات، وبينهم وجد بطاقة تمنى أن تخص والده أو أي شخص من أهله. الاسم (محمد عبد المسيح كوهين)، العنوان 6 شارع المصري – المعبد القديم – القاهرة، الرقم القومى أكبر بثلاثة أرقام عن المعتاد، مواليد 08/04/2140، يتوقف عن البكاء لحظة، يقوم ممسكاً للبطاقة، يمشي وكأنه مغيب ولا يشيح بصره عنها، يترك الجثة والحادثة وكل هذا ويرحل وعلى وجهه أعتى إمارات البلاهة.

لم يذهب (مجدي البغدادي) إليه عمله في اليوم الثاني، ولا الثالث، ودائماً ما يمشي في شارع الآلايلي ذهاباً وإياباً ممسكاً في يده بطاقة صغيرة لا يعرف ماهيتها شخصٌ غيره. في هذا اليوم بالتحديد فوجيء (مجدي) بجمع محتشد عند القهوة ومكان الحادث، شخصٌ واقفٌ ممسكاً ميكروفون ووراءه شخصٌ آخر يحمل آلة تصوير، ومن الواضح إنهم يصورون برنامج، ما أن مر بهم حتى هتف أشخاص باسمه وأشاروا إليه، فإتجه الجميع إليه،  أولّهم المذيع والمصور، فيتبين ملامحه، إنه ذاك الإعلامي المشهور المهتم بالعشوائيات وقضايا من لا صوت لهم.
-     استاذ (مجدي) بيقولوا إنك كان ليك علاقة بالولد اللي مات هنا 
ينظر إليه (مجدي) خائر القوى و يشير برأسه أنَ نعم.
-     طيب إيه اللي حصل هنا قصاد القهوة بالضبط؟ 
تجاهل (مجدي) سؤال الإعلامي وبدأ في حكيّ ما حدث منذ البدء. حكى عن كل شيء، و لكنه حذف إدعاء (محمد) بأنه جاء من المستقبل كما حذف إكتشافه لبطاقة شخصية تحمل اسم (محمد عبد المسيح كوهين)، الذين يقطن في منطقة لم يسمع عنها من قبل داخل القاهرة، ذو رقم قومي أطول بثلاثة أرقام من المعتاد، مواليد سنة لا تخطر على البال، لا، لن يقول لهم هذا فـ(محمد) لم يكن هذا، بل كان أفكاره التي بدأ بسردها، لقد حكى عن إستنكاره للتبعية الدينية، وتشجيعه على الحرية المطلقة لإختيار العقيدة، وإعلانه عن أهمية إثبات الهوية الدينية على البطاقة، بعكس الفكر المتحرر السائد الذي يطالب بإلغاء خانة الديانة من البطاقة، لأن الدين لا يتجزأ من الهوية والهوية لا تتجزأ من تعريفي، أو تعريف مستقبلي القادم، كما جاء على ذكر اسمه بالكامل والتأكيد عليه )محمد عبد المسيح كوهين(

هنا بدأ البعض في إدّعاء معرفتهم الحميمة به، واختلفوا على ذمه أو مدحه، منهم من أعلى من شأنه ومنهم من أخفضه، منهم من إحتقره ومنهم من بجله، ذاع صيته وانتشر كلامه وأصبح حديث وموضِع نقاش في المجتمع. تكونت مجموعات تؤيده ومجموعات ترفضه، مجموعات تحرق لوحات تحمل إسمه ومجموعات تعتبر اسمه رمزاً للتطور والتفتح، واحتلت افكاره مساحة في المواقع الإجتماعية المشهورة، منهم من كان يردد أفكاره التي قيلت على لسان (مجدي) ومنهم من كان يحزنه قراءتها. بدأت تظهر مظاهرات، السلمية منها والعدائية، للمطالبه بالمثل، وتم إجهاض بعضها والبعض الاخر لم يستطيعوا إجهاضها، فعلى صوتها.

وسط كل هذا إنزوى عن تلك الأحداث (مجدي محمد عبد المجيد البغدادي)، وقرر الذهاب إلى العمل، استيقظ باكراً وذهب إلى العمل غير شاعر بما يحدث حوله وكأنه نائمٌ مغيب، اتجه إلى مكتبه في حركة ميكانيكية، مسك القلم ليكتب، فإكتشف أنه فارغ، فتح الدُرج ليحضر آخر، فشد إنتباهه وريقة مطوية، يفتحها فيجد كلمات (محمد " (أنا في حاجة إلى مساعدتك الآن لم يفهم إن كان (محمد) قصد إحتياجه للمساعدة منه، أم أن (محمد) كان يحتاج أن يساعد (مجدي) نفسه لينقل إليه أفكاره فيصير خَلقاً  مختلفاً قبل أن يموت، ولكن أمثال (محمد) لا يموتون، هكذا فكر (مجدي)..(محمد عبد المسيح كوهين) لم يمت، وبدون وعي منه، قام وأخذ في الهتاف

يحيا محمد عبد المسح كوهين..!!
يحيا محمد عبد المسح كوهين..!!
يحيا محمد عبد المسح كوهين..!!
........
(البداية(


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire