mercredi 9 mai 2012

حلوة يا بلدي (3) – المنصورة..!!


بعضنا يبدأ يومه بإلقاء السلام على أول شخص مستيقظ يقابله
والبعض يكتفي بغسل وجهه كبداية ليومه


بعضنا يبدأ بشكر ربه على نعمة الحياة
والبعض يكتفي بالإبتسام في وجوه محيطيه


بعضنا يفضل ترتيب سريره
والبعض يكتفي بشرب القهوة إستعداداً ليوم جديد


أنا أبدأ يومي بالتفكير في حياتي
وبشكر الله عليها
وأدعوه لمشاركة يومي
فأسرد أحداثه
وأكون إما رتبتها أو توقعتها بحسب معرفتي بظروف اليوم
إلا إن الحياة –في النهاية-
دائماً ما تفاجئني
وأنا لا أنفك أرتب وأتوقع!
*   *   *
كنت قد بدأت عشية سفري للـ(منصورة) في الإستعداد للإمتحانات بالمذاكرة، واندمجت، لدرجة كنت أتمنى معها ما يمنع السفر، حتى وأنا في السرير أستعد للنوم، فيتسنى لي معاودة المذاكرة، إلا إن الرياح أتت كما اعتادت أن تأتي.


استيقظت في اليوم التالي، أشعر بإرهاق، قمت بما اعتدته على عجل، فكرت أن يومي سيمتليء بالأحداث، فقد كنا حددنا خمسة عشر مكاناً للزيارة، إلا إن انتابني إحساس معاكس أن اليوم سيكون أقل إزدحاماً مما أتوقع.


حضّرت حقيبتي صباحاً –على غير عادتي المنظمة- ثم جهزت ما أكله ببيتي وما أكله في أرض الله الواسعة فيما بعد، فأتاني هاتف من (أحمد) الذي يسكن على بعد ساعة ونصف الساعة بالسيارة من محطة القطار يبلغني بوصوله وأنا في بيتي على بعد ثلاث دقائق مع محطة القطار.


خرجت عل عجل وأنا أشعر أن هنالك ما نسيته إلا إني أدركت في نهاية يومي أن ظني لم يكن في محله، اعتليت كوبري (السبع) جرياً حتى وصلت لناحية شارع (رمسيس) وانتظرت مايكروباص يوصلني للمحطة بين رغبة في الإستغناء عن مواصلة تأخرت على غير عادتها وميل لإنتظارها، إذ إن المشي لن يقل عن خمسة عشر دقيقة، إلى أن وصل فوصلت.

*أقترح تشغيل موسيقى اخترتها قبل البدء في قراءة هذه الفقرة بالضغط هنا*
قابلت (أحمد) وتوجهنا لنكتشف تغير الرصيف المعتاد لنا، بحثنا عنه وركبنا إلا إننا لم نجد مقعد خالي –ممكن لأن قطارنا يبدأ مسيرته في التاسعة والربع، بينما قطار (طنطا) و(دمنهور) بدأ في الثامنة والنصف- مشطنا القطار حتى العربة الأخيرة إلى أن لزمنا الوقوف.


مر علينا الكُمسري وسألنا عن التذاكر التي كنا قد أريناه إياها  في عربة سابقة فأجبناه "تمام خلاص!" فابتسم لنا ومضى يسأل من يقف وراءنا فأجاب "محاربين" فأغمض الكُمسري عينه متفهماً دون أن يسأله إبراز بطاقة المحاربين القدامى، فلمعت في عقلي أنا و(أحمد) فكرة إدعاء الـ(خلاص تمام) أو حتى (محاربين) –بالرغم من صغر سننا- في الرحلات القادمة، وعجبي!


بدأ القطار في الحركة ففوجئت بإندفاع عدد من الناس يثبون بداخل القطار، ليزيدوا على ضيق العربة ضيقاً، إذ إنهم كانوا ينتظرون إنطلاقه وهم في الهواء الطلق –ولاد المحظوظة!- على أن يلحقوه في بدايته، إلا أن الأمر تعدى ذلك، فأثناء ابتعادنا عن المحطة أو حتى عن أي رصيفٍ كان، لمحت شخص يجري على القضبان الحديدية بمحاذاة القطار، فهمت ما يحاول فعله إلا إني استبعدت الفكرة واعتبرت نفسي ساذج، إلا إني رأيت من يشجعه، فاعتبرته ساذج بدوره، حتى اقترب الرجل من القطار وامسك بذراع حديدي يحف الباب وقفز على درجة أمام الباب فافسحوا له المجال فدخل، مثله مثل من يجرون للحاق بالحافلة بعد استباقها المحطة حتى أن بعضهم لا يدركونها –المصري دايماً معروف بقوته وجبروته!


انتظرنا أنا و(أحمد) حتى المحطة القادمة لعل العدد يقل فنجد ما نتنفسه من هواء قبل أن نجد ما نجلس عليه من مقاعد أو حتى أرضية القطار الفارغة إلا أن ما حدث في محطة (شبرا الخيمة) كان أسوأ مما يحدث في محطة مترو (الشهداء)، من كان نيته النزول بالتأكيد عدل عنها، ومن كان نيته استنشاق الهواء تخلى عنها، ومن كان ينظر نحو مقعد عله يجلس عليه، غض الطرف، فقد دخلت جحافل من البشر يطلبون منا الإفساح لهم على طول الممر بين المقاعد، حتى يستطيعوا الوقوف أو على الأقل يتفادوا السقوط، خاصةً ما نادى به المسئول.


ذيّل المجموعة التي دخلت شخص قصير أصلع الرأس، له شارب كث يمتد حتى مقدمة ذقنه، له لون أقرب للبني يتماشى مع لون بشرته القمحية وملامح وجهه الغاضبة
-      وسع يا ابني أنت وهو الطرقة ورا فاضية
وسع يا ابني للمسئول!
-      طب نروح فين ما المكان زحمة زي ما أنتَ شايف!
-      طب والمسئول يقف فين بقى؟!!
في مسئولين واقفين على الباب،هنقع، إحنا على بعد سنتيمترات منه!!
-      هي اسمها سنتيمترات برضه؟!!
-      خلاص، على بعد كام سنتي متر!
مش كفاية إني نزلت عشان أشوف الغلابة وأعيش معاهم؛ أنا قلت للسواق يركن العربية قصاد المصلحة لأني عايز أحس بالغلابة!
-      هو أنتَ مسئول عن إيه بقى؟!
-      أنا مسئول عن نفسي!!


الغريب إنه طوال الوقت يقاوم بقوة ضحكة تطل على شفتيه لتضفي طابع كاريكاتيري على شاربه الكبير –أكانت عيونه خضراء؟!!- وملامحه القاسية بطبيعتها بوجود علامة الـ111 الدائمة في سحنته.
أبتسمت لـ(أحمد) ثم ابتسمنا للرجل الذي بادلنا الابتسام، بعدها تابعنا البحث عن جزيئات الهواء والوقفة المريحة والستر.


انتظرنا حتى محطة (بنها)، وخف عدد البشر، فجلسنا في أول مقاعد متاحة لنا، إلا إننا تباعدنا على أمل الرجوع في المحطة القادمة، فجاورت ثلاث شباب استمتعت معهم إلى الحوار التالي
-      أنتَ إيه بقى اللي قافشك من يَمّتي؟
-      ما فيش
-      لأ ضروري في حاجة
-      قلنا ما فيش
يتدخل ثالثهم الذي يجلس قبالتي
-      ما قال لك ما فيش
-      اسكت أنتَ أنا بأكلمه هو!
وينظر لمن يجلس عن يساري قبل أن يعبث بجيب قميصه ليجد علبة سجائر فارغة، يضمها في راحته ثم يلقي بها من نافذةلم يستطع فتح زجاجها، فخلعه من إطاره!
بعد هنيهة سمعنا من ينادي "سجاااااير سجااااير، كابتال، رويال، سجااااير!"، فينادي أحدهم
-      يا كابتال تعالى
-      أيوه تعالى يا كابتال، هات تلاتة
-      هي السجاير دي صيني؟
-      لا طبعاً مش صيني، مش كده يا عمُنا؟!!
يجاوبه البائع:
-      لأ طبعاً، كابتال دي قطري، مش صيني زي رويال. دي كابتال دي أحلى وأنضف حاجة!
يرحل البائع فينظر الجالس عن يساري إلى خصيمه المواجه له ويبتسم
-      يعني هنشرب سجاير ببلاش النهاردة؟!!
-      ببلاش ده إيه؟!!
ما أنا لسه دافع عشرة جنيه قصادك أهه في التلات علب


ينهي كلامه ويفتح العلبة الأولى، يزيل السيلوفان ويرميه من النافذة، ويوزع السجائر فاعتذرت لأني لا أدخن، وإن كنت أدخن فلن يختلف رد فعلي تجاه السجائر الكابتال.


شربوا السيجارة الأولى فأخرج (إبراهيم) من جيبه چوان –على حد قوله- عرفت أن اسمه (إبراهيم) لأنه عندما نادى شخصٌ ما في المحطة "يا إبراهيييم"، أخرج رأسه واجاب "اتفضل!" فانتهره خصيمه الجالس عن يساري "يعني هو ما فيش إبراهيم غيرك؟!!" ابتسم (إبراهيم) وسأل "أولعه؟!!" مشيراً إلى الچوان فرد الجالس عن يساره "طب ما بلاش دلوقتي!" إلا إن (إبراهيم) أشعله ومرره على الجالسين، حتى من كان يرفض شرب، وإن كنت قبلت السجائر، لـمَرّ عليّ أيضاً. انتظرت حتى انتهوا منه وحبسوا بكوب من الشاي السكر الزيادة وما أن جاءت المحطة حتى وجدت من المقاعد ما يكفي أن يغير كلانا –أنا و(أحمد)- مقعده.


تخطينا محطة (بركة السبع) حتى وصلنا لـ(طنطا) مروراً بجامع السيد البدوي بمنظره المهيب في واجهة المحطة بعد حوالي ساعة ونصف الساعة إنطلاقاً من القاهرة وانتظرنا هناك حوالي نصف الساعة دون أن نعرف السبب حتى صدمنا قطار؛ نعم، كما قرأتموها، حيث إننا في آخر عربة فقد رأينا القطار قادم وتوقف بعد أن صدمنا صدمة خفيفة إلا إننا شعرنا بها، لم نلبث أن اكتشفنا إنه لا يتعدى عربة الجرار إذ أن مسار القطار أن يتراجع القهقري  وتصبح آخر عربة هي أول عربة بعد الجرار.


انطلق القطار في الاتجاه المعاكس وأنا أتوقع أن تكون المحطة القادمة هي (المنصورة) على الأقل إلا إننا فوجئنا بمحطة مهجورة اسمها (محلة روح) تابعة لـ(طنطا)، تخطيناها حتى (المحلة الكبرى) مروراً بـ(سمنود) فلمحنا محل أمام المزلقان حيث سوق الفاكهة والخضروات والتكاتِك المنتظرة مرور القطار، وبالضبط في شارع (السكة الحديد)، مكتوب عليه (درينكيز)، أيضاً أؤكد على ما قرأتموه، درنكيز (سمنود) وعلى بعد ثلاث عمارات منه، لافتة أكبر من لافتات مرشحي الرئاسة تغطي واجهة إحدى البيوت لتعلن عن صدور الألبوم الشعبي الجديد (حِنَين)، بجانب درنكيز (سمنود).


عبرنا (سمنود) مروراً بـ(ميت عساس) و(طلخا) حتى وصلنا لمدينة (المنصورة) بعد ثلاث ساعات متواصلة على مقعد قاسي –يا كَفَرة!- بعد خط سير يتمثل في القاهرة – شبرا الخيمة – بنها – بركة السبع – طنطا – محلة روح – المحلة الكبرى – سمنود – ميت عساس - طلخا – المنصورة، وأنا الذي توقعت وصولنا في ساعتين كحد أقصى، وللرياح الحق دائماً أن تأتي كما تشتهي.




وصلنا وكان قد لفت نظري من البداية مرورنا على كوبري يوصل ما بين (طلخا) و(المنصورة) يشبه ذاك الذي في (إمبابة)، إنما لا يوجد به ممر للسيارات، وممشى البشر على نفس مستوى القضبان بعكس كوبري (إمبابة) الذي يعلو فيه الممشى فوق مستوى القضبان الحديدية، ويبدو إنهما في نفس المتانة وأظن إنهما يخصّا نفس المصمم إنما جعل كوبري (إمبابة) أجمل.


نزلنا وأول ما نزلنا توجهنا نحو مدرسة (العائلة المقدسة) ثم انحرفنا يساراً بحسب توجهيات أحد الأصدقاء من (المنصورة) نحو شارع (المختلط) الذي رأينا فيه بيوت ومدارس لها طابع المعابد اليونانية، ومبنى المحكمة ذو الطابع الأوروبي المميز للعين، وأعجبنا كثيراً إحتفاظهم بلوحة رخامية على يسار المدخل تحمل اسم المحكمة بالفرنسية " محكمة إستئناف المنصورة 15 أكتوبر/ تشرين الأول 1949"، التقطنا لها صورة سريعة وانطلقنا نبحث عن شوارع (توريل) بحسب الخطة الموضوعة.


ما يميز الناس هناك أنهم خجولون وفي حالهم، فعندما سألنا أكثر من شخص عن شوارع (توريل) كان يتخطانا هو ومن معه وكأنهم لم يسمعونا، فإن كانوا في خضم حديث قطعوه، وإن كانوا متمهلين أسرعوا، وإن كانوا مطرقين تشبثوا برؤية السماء، حتى عثرنا على شخص يمكنه الكلام فدلنا، توجهنا ونحن نتسأل، إن كان هذا هو الحال مع شباب في عمرنا أو ينيف، فما هو الحال إذا سألنا فتاة؟ أينتهي بنا الحال بقسم الشرطة بتهمة التحرش الجنسي؟!!


تخطينا شوارع (توريل) الخالية الآن من الڤِلَل القديمة بعد أن هدمت، ووصلنا لشارع (البحر) بحثاً عن ڤِيلا (غيث) وقهوة (أندريا)، فلاحظنا الإهتمام العام بالنظافة في (المشاية) أمام الكورنيش، فالأرض نظيفة بشكل ملحوظ، يضيف على جمال الشارع نخل يتمايل أمام خلفية من المباني والبيوت الجميلة، إحداهم يعلوه بيت حمام لم يؤذي المنظر العام بل –يا للعجب!- أضاف جمالاً فوق جمال.




وقفنا على كورنيش النيل نستمتع برؤية البحر –طبعاً- ومشهد المراكبية تحت كوبري (إمبابة – المنصورة) ونتسأل عن كنه هيكلين حديديين في وسط الماء. انتظرنا ما يكفينا من الوقت وانطلقنا نبحث عن ڤِيلا (غيث)، وقررنا سؤال رجل كبير في السن يبدو عليه الإحترام له شارب وذقن طفيفين ويرتدي بذلة وبيده حقيبة، كل ما يتجمع في مظهر رجل بالغ، توجهنا إليه بالسؤال إلا إنه تخطانا في باديء الأمر ثم تراجع بهدوء حذر، وأكاد أقول بإحتراس خجِل أيضاً وتسأل ڤِيلا (غَيْث) بفتح الغين، وعندما أكدنا له تساؤله وصف لنا مكان الڤِيلا بوصف دقيق يعتمد عليه فشكرناه ومضينا في طريقنا.


في الطريق اكتشفنا المقدرة الفنية لأهل المنصورة على إبراز فن الجرافيتي عند أحد الأنفاق، فقد كان بمثابة متحف مفتوح لفن الجرافيتي الراقي يسبق مقدرة رائعة على رصف قطع الفسيفساء بشكل دقيق على نفس حائط النفق، جذبني إليه دقة الإهتمام بالتفاصيل والإعتبار للضوء والظل على عكس الفسيفساء المعتادة التي تقدم فن ذو بعدين اثنين فقط ومن ثم لا داعي للإهتمام بالضوء والظل، حتى تدريجات الألوان كانت رائعة.










أكملنا مسيرتنا حتى ڤِيلا (غيث)، صورتها دون أدرى بها أكثر من كونها مبنى قديم لا بأس بمنظره، ثم اكتشفنا بالصدفة أنها مبتغانا، إلا إني لم أجد ما هو مميز بها عدا إنها قديمة، يزين مدخلها تمثال لـ(أنيس محفوظ) بحسب إدعاء حارس الڤِيلا، إلا إني لا أعرف من هو (أنيس محفوظ) ذاك ويبدو من الخيط المربوط حول رقبة التمثال أن هنالك من حاول إسقاطه.


اتجهنا بعدها نبحث عن محطتنا القادمة وعن شارع (محمد فتحي)، دخلناه فلم نجد ما يجذب الأنظار فبحثنا عن مقهى نرتاح به إلا أن ما وجدناه بداخل الشارع لم يشي براحة في نفوسنا فخرجنا، إلا إننا عرفنا فيما بعد أن الشارع يحتوي على تجار مخدرات، فتسألنا إن كان الحشيش يقدم مغلي مع الشاي، أم يقدم الشاي والحشيش بره؟!!


اتجهنا نحو محل بقالة وسألناه عن أقرب مقهى فأشار لنا على المقهى الموجود بشارع (محمد فتحي) ولما رفضنا اقترح علينا الذهاب لمقهى (أندريا)، وصفها لنا فاتجهنا، وفي الطريق وجدنا تعاون من البشر بعكس ما رأينا أول ما وصلنا، فلم نفهم طبيعتهم، إلا إننا سلكنا حسب إرشاداتهم.


في الطريق لاحظنا التجاهل العام بآثار المنطقة، فذاك بيت قديم مهدم أو آيل للسقوط، وذاك مسجد مكتوب عليه (مسجد الشهيد الطيار محمدنو 1291/1907) تحولت واجهته لموقف أوتوبيسات، وذاك مبنى يحتاج إلى الترميم، إلا إن الإهتمام بما هو جديد ومتمدين أخذ حقه بشكل معقول؛ أيضاً لا حظنا أن الإدعاء بأن أهل (المنصورة) لهم من الملامح الأوروبية نصيب الأسد إثر إحتكاكهم بجنود حملة (لويس التاسع) هو إدعاء لا أساس له من الصحة، فهم مصريين أكثر مني ومنك، لدرجت شعرت معها إني أجنبي أكثر منهم.
حتى الآن خُدعنا في كل مدينة نروحها، خُدعنا في حلاوة المولد بـ(طنطا)، فقد كانت عادية، وخُدعنا في حلاوة أهل (رشيد)، فقد كانت أطعم مما سمعنا من إفتراءات، والحلاوة العامة لأهل (المنصورة) حيث أن من بينهم ما ترجع أصالته العرقية للتشبه بتماثيل المتحف المصري.


أغرمنا بمقهى (أندريا) من أول طلة، دخلنا وطلبنا ما نشربه وجلسنا ننتظر، فترامت إلى مسامعي حديث يدور بين مرتادي المقهى ممن يجلسون قبالتي، كانوا يتكلمون في السياسة و عن سباق الرئاسة، وكل واحد فيهم ينظر في جريدته، فملت برأسي للأمام قليلاً طلباً في الراحة، فظن أحدهم إني أحاول إستراق السمع فوجه لي الكلام "مش كده برضه؟!!"


كان عم (سيد) له ملامح شخص رأى في حياته من الخبرات ما يكفيه للحديث بهذه الثقة، كان يبدو من طريقة كلامه إنه إما حرفي يجيد الفصال أو بائع شاطر وكنت لا أتبين إن كان بغير أسنان، أم أن أسنانه هي السوداء؛ كان يتحاور مع الرجل عن يمينه بينما يقوم الآخر بعادة غريبة وهي أن يصب الماء في كوب القهوة بعد أن يفرغ منه، فيمتليء بذاك السائل الأسود، فيتجرعه على مهل، وقبل الإنتهاء منه كان يعيد ملئه مرة أخرى حتى نهايته ليتجرعه بهدوء وكأنه ما يزال قهوة وساخنة، المهم أن ما يضيف من كاريكاتير على المشهد أن الرجل نفسه يشبه (كارل)، الشخصية الرئيسية في فيلم (آ پ) بشعره الأشيب المميز والنظارة السوداء فوق بشرة ناصعة البياض إنما أميل للحمرة، يرتدي بذلة كاملة ويتكلم ببطء إنما بحماس بعكس الشخصية الكارتونية إلا إنه في النهاية يعاني من مشاكل في السمع مثل (كارل)، وحين يتحدث تتأكد أن فمه خالي من الأسنان بشكل يصيبك بأزمة أثناء سماع بعض مخارج الألفاظ في كلمات بعينها؛ لمحته يصف لشخص مكان بنك بدقة متناهية، ففكرت أن الدِهن في العتاقي وتوكلت على الله وسألته عن مكان محطتنا القادمة (صاه الحجر) المعروفة باسم (صان الحجر) وهو مكان أثري، فأعلن جهله بالمنطقة وهنا تدخل عم (سيد) ليشرح لنا أن (صان الحجر) يسمى أيضاً (بيت الحجر) والمنطقة تقع بالقرب من (بيت الغُـــرَق) بضم الغين وفتح الراء، فتدخل الشخصية الكارتونية ليعلن لنا إنها مكان لممارسة السحر والشعوذة
-      هو أنتم رايحين تعملوا عمل ولّا تفكوا عمل، ولّا رايحين تتفرجوا وخلاص؟!!
-      لا، المكان فيه آثار وإحنا رايحين نتفرج عليها!
-      قول لي طيب بس، رايحين تعملوا العمل ليه؟!!
-      إحنا رايحين نشوف الآثار عشان ده مجال دراستنا
-      أنتوا قلتوا لي بتدرسوا إيه؟!!
-      إرشاد سياحي
-      آه، قلت لي، أنتوا منين بقى؟
-      من القاهرة
-      أه، أهلاً!!
وانقطع الحديث حتى أتاتني خبطات رقيقة على كتفي الأيمن، التفت فوجدت شاب يجلس ورائي، سألني إن كنا نبحث عن (صان الحجر)، فرددت بالإيجاب
-      بص، أنا ساكن قريب منها، واللي بيقولوه ده غلط
-      أنتَ عارفها كويس؟! فيها آثار دي، مش كده؟!!
-      آه، أنا زرتها أكتر من مرة
-      عجبتك؟!
-      جداً!!
صدقته لأن عينيه ألتمعت ببريق لما ابدى إعجابه بالمنطقة أشبه ببريق عينيّ (خالد النبوي) في فيلم (المهاجر) عندما وجد الميه الحلوة، سمعته فسرد لي طريق الذهاب بصوت منخفض أولاً، ثم أنهى ما كان يشربه وسرد الطريق مرة أخرى بصوتٍ عالٍ ليخبرهم إنهم كانوا على خطأ، فرد عم (سيد)
-      إيه ده هو أنتوا كنتوا عايزين (صان الحجر)؟!! وأنا اللي كنت فاكركم عايزين (بيت الحجر).
ألا هي (صان الحجر) دي مش قريبة حتى ولو حتى من بعيد من (بيت الغُـــرَق)؟
-      لأ، مش قريبة منها خالص!
-      طب مش كنت تقول؟!! سامعنا عمّالين نقول للناس وأنتَ عارف الطريق وساكت!!
فيتدخل الشخصية الكارتونية
-      كنت هتَوّهم يا سيد –هكذا عرفت اسمه-  وكنت هتوديهم (بيت الغُـــرَق)!!
لكم أن تتخيلوا خروج كلمة مثل (الغُـــرَق) من فم شخصية كارتونية بلا أسنان، لتدركوا المجهود الذي قمت به لأتمالك نفسي عن الضحك، إلا إني في النهاية سألتهم وهم مجتمعين عن منطقة اسمها (خلوة الغلبان) كنت قد قرأت كتاب بنفس الاسم لـ(إبراهيم أصلان) بالصدفة في الأسبوع الذي أرجأنا فيه –بالفعل- سفرية (المنصورة)، فاهتميت أن أراه، إلا إني في النهاية لم أدركه لعدم معرفتهم به، شكرناهم ودفعنا ما علينا وانصرفنا.
-      اوعوا تروحوا (بيت الغُـــرَق)!!


قبل أن نتجه لـ(صاه الحجر) –بعيداً عن (بيت الغُـــرَق)- قررنا المرور على (دار ابن لقمان) ومتحف (المنصورة) إلا إننا وجدناه مغلق بشكل لا يتعارض مع نظريتي السابقة عن إهمال الآثار، فخرجنا لنتبع مسار الشاب.


ساعدنا الناسُ في الوصول للموقف فركبنا مايكروباص يتجه نحو (سندوب) ثم مشينا حتى (المنزلة) وتوجهنا لموقف (الجمالية) لأخذ مواصلتنا لـ(صاه الحجر) إلا إننا اكتشفنا وجود العديد من المواقف بجانب موقف (الجمالية)، فهنالك طريق (الزقازيق) إلى (فقوس) ثم مواصلة حتى (صاه الحجر)، أو طريق (الإسماعيلية) مع إعلام السائق بوجهتنا سلفاً، أيضاً أن أركب حتى موقف (التلاجة) وأخذ مواصلة نحو (كفر فارس) أو (أبو فارس) ومن هناك ما يوصلني إلى (صاه الحجر)، إلا أن الكل أجمع على أن المسافة تحتاج حوالي ساعتين على الأقل، ولم يكن الوقت في صالحنا فعدلنا عن رغبتنا ورجعنا صوب محطة القطارات.


في القطار وجدنا مقاعد خالية بسهولة عكس الصباح، كما أن الكمسري يتعامل بحرفية أكثر من نظيره في الرحلة الصباحية، إذ أنه في كل محطة يأتي كمسري مختلف ليتحقق من التذاكر، حتى إنه اضطر بمرور الوقت أن يصحب مصباح كهربائي صغير لينجز به أعماله، مثله مثل صبي السينما الذي يصحب الزبائن لمقاعدهم على ضوء كشاف صغير تصحبه جملة "كل سنة وأنتَ طيب يا باشا!"، إلا أن المقولة لم تصحب الكمسري بأي حال؛ حتى إننا وجدنا أن حتى الباعة الجائلين يحفظون النظام ويحضرون المصباح الكهربائي.


ما لفت إنتباهنا هو وجود صف من المقاعد مكتوبٌ عليه بخط اليد "وزارة الداخلية، نقطة شرطة القطارات، ممنوع الجلوس"، ويجلس تحتها اثنان من العساكر النفر طاعني السن، لم يقوا على النظر إلينا عندما صورنا اللافتة على ضوء الفلاش الصادر من الكاميرا في ظلام قطار بلا مصابيح ولا أنوار.


في النهاية وصلنا القاهرة، شعرت ساعتها بإستقبال الباحة الرئيسية للمحطة بلونها الأصفار، ينم عن حميمية أراحتني من عناء سفر طويل، فخرجنا لتستقبلنا أرضية الأسفلت الباردة بصمت بليغ ولّد فينا إحساس فيما يشبه الوطن!