mercredi 18 septembre 2013

همزة وَصْل..!!

لم أهتم قبلاً لتوثيق ما يحدث في حملة (همزة وَصْل)، دائماً ما كانت بالنسبة لي حدث سيمر وينتهي، لكني شعرت بالضيق أننا ما تمكنا من تصوير وتوثيق الحدث السابق.


حملة (همزة وَصْل) تهدف أساساً إلى الربط ما بين المجتمع بشكله المعروف وبين فئات نبذها المجتمع لأي سبب من الأسباب أو لأي أفكار مسبقة أنشأت حالة من دائرة مفرغة لا جدوى ولا طائل منها. وتقوم الحملة على إنشاء رابط إنساني مع من تم رفضهم والحكم عليهم بشكل يخلو من الإنسانية واللاعقلانية، وإرساء دعائم وعي في دوائرنا المجتمعية الضيقة عدداً وأفقاً.


تمحور المشروع السابق حول دعم أشخاص طالبي علم ممن لم تتِح لهم الظروف المادية الإمكانية للتعليم، وتم إختيار قرى الفيوم كحقل عمل أولاً، ثم تم تغيير المكان لمدرسة بعينها في منطقة (العمرانية) بمحافظة (الجيزة).


كانت الفكرة أن نقدم حقيبة مدرسية تحتوي على إحتياجات دراسية لعام واحد تقريباً وبالتنسيق مع مدير المدرسة تم إختيار مجموعة من الطالبات في الدرسة.


في اليوم المحدد إنطلقنا بسيارتين محملتين بكل المطلوب، اتجهنا لشارع (المدارس) خلف سنترال (العمرانية) ودخلنا مدرسة (المحمدية – بنات) وكان لأثر دخول السيارة محملة بالحقائب الحماس في عيون أطفال اعتبروا الموضوع هدية خاصة موجهة لهم قبل أن تكون تسهيل لفرص التعلم.


كانت المدرسة على قدر بساطتها نظيفة مهندمة إلا أن عدد المنتظرين يشي بإحتياج هائل، فللأطفال هو شكل من الإهتمام المتمثل في هدية وبالنسبة لأولياء أمورهن هي فرصة لتخفيض النفقات على أطفال ليسوا أبنائهم إذ أن كل فتاة تواجدت هي يتيمة يعولها أحد أقاربها يجد من الضيق المادي إعالة عائلته الخاصة أصلاً.


دخلنا باب المدير فلفت إنتباهي لافتة تعلن توقف التحويل للمدرسة لعدم وجود أماكن خالية، ففكرت لأي مدى يعني عدم وجود مكان خالي في تلك المدرسة، ففي دور السينما مثلاً هذا يعني أن جميع المقاعد امتلأت بالمشاهدين ولا يجوز أن يجلس متفرج أرضاً، أما في هذه المدرسة فما يعنيه هذا؟ أن كل مكتب من المفترض أن يحمل إثنين يحمل الآن ثلاثة فلا يمكن أن نُحمّله أربعاً أو يكون أن الأرض امتلأت أصلاً ولا مكان لمن يجاور الجالسين أرضاً؟ خرجت من التساؤلات على ورقة أخرجتها مسئولة الخدمة الإجتماعية بها أسماء البنات مقسّمة في جدول قبل أن تعاتبنا على تأخيرنا حتى أن إحدى البنات المصابة بمرض القلب أرهقها إنتظارنا فرجعت بيتها!


اتفقنا على ما يلزم، منه ما يمنع التصوير حتى وإن كان بآلة تصوير لهاتف محمول قبل أن يسمحوا لنا بدخول المسرح، ساعدتنا البنات في تحميل الحقائب والأدوات المدرسية وأغلقنا المسرح علينا ولم يُسمح لأي فتاة صغيرة بالتواجد سوى ابنة مسئولة الخدمة الإجتماعية فكانت خير عون لنا.


المدرسة تشبه إلى حد كبير مدارس قرى ومراكز الصعيد وإن كانت أفضل حالاً بشكل طفيف، حتى روح الناس هناك لا تختلف كثيراً في البساطة والصراحة ولهفة الإحتياج أو الترفع عنه بشكل وقور عما رأيته في قرى وأكوام الصعيد إلا أن الوضع هنا قاسي، حيث تشتد حدة التباين بين ما يعيشونه وبين ما يعيشه من تناسوهم على مسافة ساعة على الأكثر بأي مواصلة ليفقدوا أي أمل بالتغيير.


بدأنا بفتح الحقائب وتعبئتها، عشرون كراسة، ثلاثة أغلفة من الجلاد (ثلاثون فرخ) ومقلمة تحتوي على عدد إثنان قلم جاف، واحد مسطرة، واحد ممحاة وواحد برّاية، وبدأنا بصفهم قبل أن يطلب منّا المدرسون بدء التوزيع.


اقترب الأطفال بمعيليهم من الباب فاقتسموهم بعدها لكثرة العدد بين باب ونافذة المسرح، تقوم مسئولة الخدمة الإجتماعية بمناداة الأسامي تدخل الفتاة وتحمل حقيبة كاملة فتقوم المسئولة بوضع علامة صواب أمام اسمها، بينما تقوم ابنتها بمساعدتنا في التعبئة والنقل، وفي إنتهاء اليوم أعلنت لنا –طبقاً للكشف- أن من تخلف عن الحضور هما بنتان فقط فحجزنا لهما حقيبتهما وعندما حاولنا إهداء ابنتها حقيبة رفضت: "لا أنا مش من الأيتام، أنا عندي بابا وماما جالوا لي الشنطة والحاجات، ادوهم هما" إلا إنها أخذتها في النهاية بعد إلحاح منّا وتم توزيع باقي الحقائب المشتراة زيادةً عن تقدير مسئولة الخدمة الإجتماعية على أبناء العاملين في المدرسة من الدادات وحارس المدرسة.


خرجنا من المسرح –لا أحتاج للإشارة أن كلمة مسرح تدل على مساحة وتجهيز تجعل من شقق بعضكم مسرح سياحي- لنقابل الفتيات يحملن الحقائب على ظهورهن بمنتهى السعادة.. والثقة! بدأن الكلام معنا عن فرحتهم بالحقيبة الجديدة أثناء مشيتهن الأقرب للرقص وهن ممسكات بأذرع الحقيبة، وعندما سأَلت إحداهن إن كنّا سنأتي مرة أخرى تدخلت مُدرسة للرد قبل أي محاولة منّا حتى للتفكير في رد "طبعاً هيجوا هيجوا.. هيجوا في العيد" تتبعه بإبتسامة فهمتُ منها أنها مدركة أن من ينهي لقائه بوعد المجيء هو بالذات من يختفي من حياة أولئك الفتيات.



دخلنا مكتب المدير مرة أخرى لنشكره على تعاونه معنا وخرجنا، فألقيت نظرة أخرى على ورقة إعلان إمتلاء الأماكن قبل أن أخرج، ركبنا السيارة وانطلقنا مرة أخرى إلى حياتنا، حيث الجانب الآخر من شدة التباين.

samedi 7 septembre 2013

ومن الكمال ما نقص..!!

في بداية حياتي لطالما امتعضت من جملة لم يقدر الزمن على إخفاءها لتطل بوجهها القبيح من آن لآخر، مفادها أن على المرء مد أقدامه سعة غطاءه غير ذلك هو جهدٌ بلا طائل، ولطالما شعرت بضيق أفق المقولة، أفليس من الأجدىَ أن نشترى غطاءاً أوسع؟!!
*  *  *


في بعض المناسبات يمنُّ علينا الكبار بألعاب بسيطة لمن هم في سننا، دون العاشرة أو ينيف، أغلبها تكون تلك الألعاب التي نستطيع اللعب بها بدون الحاجة إلى كهرباء، كألعاب الذكاء البلاستيكية والتي من ضمنها -وأشدها رعباً لي- هي المربع الذي يحتوي على مجموعة أصغر من المربعات مع غياب أحدهم لإتاحة مساحة التحرك للآخر. كنت أخاف منها لأني لا أستطيع أبداً إرجاع المربعات لشكلها الأصلي وينتهي بي الأمر إلى تفكيكها واللعب بأجزاءها على حدىَ ثم رميها.. وهنا تتوقف اللعبة، وحتى إن ندمت وفكرت في إرجاع أجزاءها ومن ثَم إستكمال الطريق حتى النهاية، يكون من الصعب تركيب لعبة سالفة التخريب.


حدث من ضمن المرات القليلة إني قررت أن ألعبها بشكل صائب وهنا عانيت دائماً فكرة أن أكون كَوّنت أغلب الصورة ولا يبقى لي سوى أن أجلب أول مربع ليصير الأخير، وفي الطريق يتغير ما حققته من إنجاز ليغدو خلقاً مشوهاً وفي محاولة مني لترميمه أضيّع القطعة الأخيرة من الأحجية في مكانٍ آخر،  ولأجدها يتعين عليّ هدم ما توصلت إليه من نتائج، و في النهاية إما أتركها أو ألجأ للغش فأخلع القطعة الناقصة لأركبها في مكانها المخصص لها، إلا أن لا القطعة تستقر بالحشر ولا أنتهي أنا بإحساس الرضا.
*  *  *



المشكلة في حيواتنا أن فرص الغش بهذه النتيجة نادر، ومؤقت إكثر من اللعبة إن حدث، أما عن الهروب وترك اللعبة، ففي حياتنا هذا شبه مستحيل في حياة أكثر إلحاحاً من لعبة يشدك فيها التحدي.


حياتنا تحركها أهداف، حتى وإن كانت بسيطة أو إن كنا غافلين عنها أصلاً، إلا إنها المحرك الأساسي، أو بالأحرى هي النواقص في حياتنا التي تدفعنا لإنشاء أهداف.

تعددت النواقص ومن ثَم أساليبنا في الوصول إليها. فكلمة نواقص تأتي لتشمل منصب نسعىَ إليه، مستوىَ ماديّ، مكانة بالنسبة لشخص آخر، إحتياج لنبذ شخصٍ من حياتك، إحساس مفاجيء بالغربة وسطة زحمة أصدقاء، أو حتتى تتطلُع للتقرب من شخص لسببٍ ما لم تدرك كنهه بعد.


نحاول بشتىَ الطرق أن نملأ فراغات النواقص في حياتنا، ودائماً ما نجد المربع الغائب فنحاول ملء فراغه بمربعٍ آخر ظناً منّا توصُلنا للكمال بينما أنقصنا بقعةٍ أخرىَ وأوجدنا فراغاً جديداً يحتاج لملء عكَس رغبتنا الأولى في ملء ما نقُص.


ضبطاً بعد ملء فراغ نبداً في التفكير في الثمن الذي دفعناه إزاءه، أو بالأحرى ما نقص على صعيدٍ آخر، ما هي المكاسب وما هي الخسائر جراء إختياري؟

*  *  *


هل سأصل للصورة الكاملة في النهاية؟
هو السؤال الذي يلوح فوراً بعد إدراك أن إنغماسي في الدراسة أنساني تكوين صداقات طويلة الأمد، أو أن ترتيب أولوياتي لعائلتي أعماني عن إلتزماتي بالعمل أو محاولتي للتقرب من شخص أشردني عن حقيقة أن ما كونته من مربعات سيزول عندما أصل للمربع البعيد.. فأقربه.


الغريب إننا إذا توصلنا للشكل النهائي سنترك اللعبة! نحن نعرف الشكل لأننا رأيناه قبل أن نعبث به بأنفسنا، أما عن الحياة فما هو الشكل الذي يسعى إليه كلٌ منّا وصولاً؟ وكيف نعرف إذا كنّا وصلنا أم لا؟


في اللعبة، الشكل الكامل ينقص دائماً قطعة لإتاحة التحريك من البداية. أنكون وصلنا للكمال في حياتنا ولم ندرك لغياب قطعة القيد ووجود مساحة الحرية دائماً؟ فنعبث من جديد في كمالنا الذي وصلنا إليه تواً ونضيعه لنبحث عنه من جديد غير عالمين إننا قد وجدناه.
*  *  *


ماذا يحدث إذا أدركنا وصولنا لمسعانا.. هل سنترك الحياة؟ أسننتحر آنذاك؟ أم ننتظر زوال الأيام؟
النقص يسبب الألم، نعانيه خلال السعى أو بعد خسارة إنجاز في محاولة منّا لإستيعاب إنجاز أوسع وأضخم، فما أخلفت ورائي سوى العدم؛ لا استبقيت إنجازي القديم ولا تنعمت بحلاوة حلمي الجديد لمرارة سابقه.


إلا إننا نعيش. نعيش في حلقة من الفراغات والسعي لملئها بأقل  الخسائر، لكنها تظل خسائر ولولاها لثبُتنا في مكاننا لا نحرك ساكناً، نعد الأيام منتظرين نهايتها؛ بينما ألم الفراغ هو ما يحيينا ويميزنا عن غيرنا ممن تجاهلوه وآثروا الركود، فماتوا وسط عاصفةٍ من الجمال.


جمال حياتنا يكمن في عدم كمالها، يتجلى في بحْثنا عن الفراغات ومحاولتنا لملئها المدفوعة بإحساس ألم ناتج عن إنتزاع المربع الأمن من حياتنا لتطييب فراغ كان يؤلمنا سلفاً.


حياتنا هي مسيرة من البحث عن الذات وتكوين صورة كاملة لها يتخللها فراغات جديدة يتبعها دائماً ألم، بينما من كف عن الشعور به أو تجاهله فقد رمىَ لعبته الخاصة مدعياً موته عن إكمالها.. فغفل جمال الحياة!

*  *  *