mercredi 15 août 2012

أبحث عنه..!!

لعل هذه هي المرة الأولى في حياتي التي أسعى فيها لنشر خواطرِ سلبيةٍ، إلا أن في عرفيّ الشخصي، تحظى فترات الإنسحاب بنفس القيمة والإحترام كما لفترات الإنبساط والإيجابية المفرطة، كلٌ له قيمة في عقيدتي، ومن هنا نبدأ الحكاية.


تبدأ الحكاية عندما كَففت أن أشعر بتلك الميزة والطاقة التي كانت تدفعني للأمام بشكل يبرز هالة تحتويني، يراها الكل لكنهم لا يدركون ماهيتها، تدفعهم للإقتراب مني، إنما على مسافة، فكما كانت على قدر من الغموض يثير الفضول والإقتراب، كما كانت لها هيبة تجزع لها النفس فلا تسمح بالإقتراب مني بشكل حميمي، إلا إنها في النهاية خفتت قليلاً، أو هكذا أظن، ومعها خَفُتَ الدافع الذي يزودني بإحساس التمَيُز والإنفِراد، وهنا يبدأ التساؤل عن كينونتي وماهِيَتي، عن طبيعة كياني ووزَناتي.


طفقت أجرب كل شيء كالمجنون، كالممسوس، أو كمن تاه في الصحراء جائعاً عطشاً، فهَدَتَه قدماه إلى مأدبة تعج بكل ما لَذ وطاب، فأُصِبت بالتُخمة، وتحوَلت من جائعِ إلى مُتخم لا طاقة ولا حَول لُه ولا قوة للقيام بأي شيء؛ بدأت أفضل الخُمول، وسريعاً ما ينفذ صبري أمام المسئُوليات، وأجزع من ذكرها أمامي، وبدأت أشعر كمن مشَى ثلاثة أيام بلَياليهُم فَور سماعي لأي طلب، أو في حالة إلقاء مسئوليةٍ ما على عاتقي، فأحاول التنصل!


أصبحت ثقيل، فارتطمت بأرض واقعٍ قاسي، لا يشبه ما كنت أراه حينما كنت أكثر خفة، وأكثر علواً عن صِراعات المغاوِر، أقل تعقلاً وأكثر جنوناً، فتسألت عنه، أين (أندرو) القديم؟!!


أين ذاك الـ(أندرو)..؟
الذي انبهر بجملة سمعها مفادها "تقدر تغير كل شيء في ثانية"، ليصبح (أندرو) الذي يتهكم لدى سماع مثل تلكم الجمل!


أين (أندرو)..؟
الذي دافع عن حلمه عندما رفضت أمه أن يغدو مخرجاً للأفلام، فقال لها وسط دمعاتها: "خليكي فاكرة إنِك هتعيطي العياط ده تاني، لما تشوفيني بأتكرّم!"، ليصبح (أندرو) الذي يبحث عن محض سَتر!


في مسيرة الحياتي الصغيرة، تخلَيت عن كثير من مبادئي وطُرقي في التعامل تحت مُسمى قابلية التأقلم مع المجتمعات الجديدة التي أنا بصدد الدخول عليها، والإنخراط في العوالم الأيلة إليّ، أو حتى أحياناً لجذب إنتباهٍ واهٍ خاوٍ ، إلا إني في النهاية أصبحت كمن رقَص على السُلَم، فلا أنا حافظت على (أندرو) كما هو وساهمت في تطويره، ولا أنا أصبحت الشخص الذي أدّعيه، وفي النهاية أنا مزيج من (أندرو) وعِدة أدوار أخرَى تاه (أندرو) بينهم، وأقام حدوداً منعت تمييزه بسهولة وسط هؤلاء.


لأول مرة في حَياتي، لا أستطيع أن أرَى ما يحيقُ بيّ أو ما ينتظرني، أنا المعتاد على التفكير في الحياة أكثر من ممارستها؛ لأول مرة أشعر أن لا مستقبل لي.
أشعر إني إما سأموت قريباً
أو إني سأحيا ميتاً
أي إني سألتحق بدورة حياة دودة القز
سأبحث عن وظيفة والسلام
سأسعى وراء زوجة جيدة
بعد أن أكون تخليت عن مَبدأي بعدم الإرتباط إلا بعد قصة حُب طويلة
وسأصبح زوج عادي، أو أكثرُ قليلاً
سأنجب أطفالاً بدون الإحساس بالإحتياج لوليديّ قبل أن يُولد
وأربيهم في جو خالي من الحب، فقط يتخلله الشعور بالواجب
سأتذمر من حالي ومن حال أسرتي ولن أفعل شيئاً لإصلاحه
سأصيح في وجه زوجتي وأولادي ولا أستمع لهم
وسأدعي الإهتمام حتى أصدق نفسي
وأعلن إني أوصلتهم لبر الأمان، بينما هم يكرهوني في السِر والعَلن
فأدّعي دور المظلوم من زوجة ناكرة للجميل وأولاد عاق
وألعنهم في السر والعلن
بينما تنحصر علاقتي بتلك المرأة بالمنزل على تقاسم المرتبات
ناهيك عن كبر سننا، إلا إننا لم نمارس الجنس منذ ولادة آخر مولود لنا
ثم أخرج في التجمعات الكبيرة لأتباهى بزوجتي وأبنائي
ولا ألاحظ إستيائهم من إدّعائي
ولأزيدن على الصورة، هالة من التدين البديل الخاوي
وفي النهاية سيدارى الثرى وجهي
ليخفي إبتسامة راضية
مزيفة
تعبر عن إمتنان مزيف
لحياة مزيفة
لم أختر منها سوى أن أحياها
إلا..
 إن وجدت (أندرو)!!

vendredi 20 juillet 2012

الإيمان بين دلو ماء وعود ثقاب..!!


بدايةً أحتاج أن أنوه أن لا صلة بيني وبين البت في أحكام الشرائع والأديان، ومن ثم لا يحق لي التحدث باسم أي دين حتى وإن كنت مارست واحد –بوعي وبغير وعي- على مدار 22 سنة، وبدأت دراسته منذ أربع سنين، إلا أن ما أكتبه هو من منطلق تأملات شخصية بحتة!!
*    *    *

تمت تربية أغلبنا في مناخ تنافعي يبحث ويدقق عن المكسب والربح الآيل إليه جراء كل فعل حسنٌ كان أو سيء، "ادي عمو بوسة عشان تاخد الشوكولاتة!!" أو "عيب، ما تقولشِ كده عشان بابا مايزعق لكش وماما ماتضربكش!!" فاقتصرت علاقتنا بذوينا على أكبر تحصيل للشوكولاتة والحلوى، وأكبر تجنب للتعنيف لفظي كان أو جسدي.


وفي سن أكبر بدأت قيمة الحلوى في الإنحدار كمرغب، واللامبالاة تجاه التعنيف بدأت في الإزدياد، وبالتالي نحتاج عمو أكبر يملك ما يرغبون فيه وما يرهبهم أيضاً، فلنقل إذاً... العمو المطلق، "كل الأكل عشان ربنا يحبك وتخش الجنة" وأيضاً "اسمع الكلام عشان ربنا ما يزعلش منك ويدخلك النار"، لتنمو فينا بدورها روح المنفعة من الله؛ والنتجية إننا كما تناسينا أن نقيم علاقة حب غير مشروط مع ذوينا في وسط زخم المنفعة، وركزنا على المحفز، فأننا أيضاً تناسينا إقامة علاقة جادة مع الله أغلب الوقت، فلم ترَ عيوننا سوى شوكولاتة الله وتعنيفه!!
ومن الطبيعي إذاً أن يتحول دعاءنا من "اللهم زدني بقربك" إلى "يا رب قنا عذاب النار" ومن "لا تنزع وجهك عنا يا الله" إلى "يا رب اسكنا ملكوتك"، مما يطرح أمامنا عدة أسئلة
-      ما هي الوسيلة وما هي الغاية؟ وما هو الفرق بينهما –إن وجد في نظرتك؟
-      ما الفرق بين الغاية والنتيجة الطبيعية المترتبة على بلوغها –إن لاحظت وجوده؟
*    *    *


ثمة قصتان سمعتهما في الصغر ما يزال صداهما يرتج في ثنايا عقلي حتى الآن؛ الأولى كانت للقديسة (تريزا)، قيل إنها صلَّت فقالت فيما معناه: "يا رب إن كنت أحبك طمعاً في الجنة، فلا تسمح لي بإدراكها والقني في النار، وإن كنت أحبك خشيةً من النار، فلا تسمح لي برؤية نعيم جنتك!"
وفي سن أكبر –وإن كنت لم أتخطَ مرحلة المدرسة بعد- سمعت القصة الثانية وهي تنسب للمتصوفة (رابعة العدوية) إذ قيل، والعهدة على الراوي، أنه تم رؤيتها تمشي الهويني وفي يد دلو مملوء بالماء وفي الأخرى مشعل، فسؤلت عما تبحث وفيما إحتياجها لغرضين متضادين لا حاجة لها بهما في نظر السأل، فأجابت: "أنا أبحث عن الجنة فأحرقها وعن النار فأطفئها، لئلا يعبد الناسُ الله طمعاً في الجنة أو خوفاً من النار، إنما له وحده عز جلاله!"
*    *    *


لا يمكن الإدعاء أن تكوين العلاقات هدفه الرئيسي هو التنزه معهم مثلاً، إذ أن النُزَه هي النتيجة الطبيعية لوجود علاقة وليس العكس، وبالمثل لا يمكن الإدعاء أن الإبقاء على العلاقات وتجنب المشاحنات هدفه الرئيسي إتقاء شر أصدقائي، وإنما مراعاةً لمشاعرهم التي أحترمها وأقدرها؛ وبالتالي فهناك فرق كبير بين الغاية والنتيجة المترتبة على بلوغ الغاية، فإما أن أحب من هم في دائرة علاقاتي، فأسعي أنا أكون بقربهم، أو إني أسعى أن أكون بقربهم وأنسى أن أحبهم وأقيم علاقة معهم.
أي إني إما أسعى لهدف مغذي يملأني وينميني، أو إني أسعى لهدف خاوٍ لا يروي، وفي النهاية يترك فيّ إحساس دائم بالعطش لا ينميني، بالرغم من إني أرى صورتي في المرآة وأنا أشرب، والناس تراني وأنا أشرب بل وتعضدني.. إلا إني في قرارة نفسي لا أرتوي حقاً.
*    *    *


أظن أن الإيمان يبدأ بدلو ماء أطفيء به خوفي من النار، وعود ثقاب أجرف به شوقي إلى الجنة، بينما يتحول دعائي من "اللهم ادخلني فسيح جناتك، ولا تسمح بدخولي النار حيث البكاء وصرير الأسنان" إلى "يا رب زدني علماً بك وشجاعة الإقتراب!!"
*    *    *

mardi 17 juillet 2012

تربية عسكرية(1)..!!


كعادة أي جامعة حكومية، لازم ولابد إن ما أتخرجش إلا أما أشارك في دورة التربية العسكرية، و للي مش عارف فالتربية العسكرية دي يا مؤمن هي عبارة عن توعية عسكرية بتتلخص في تمارين عملي ومحاضرات نظري، يعني تعرف إزاي تحيي الرُتَب الكبيرة أما تقابلها صدفة في مراحيض عامة أو على عربية فول؛ وكمان عشان تعرف إزاي تتصرف إذا دولة رمتك بسلاح من أسلحة الدمار الشامل.


رحنا أول يوم، قبل الساعة 7:30 زي ما مكتوب على الكارنيه، واستنينا لحد ما ندهونا، وهناك قالوا لنا إنهم مش هيندهونا كل واحد باسمه، إنما كل واحد له رقم مسلسل بحسب الكلية، وعلى الأساس ده هيندهوا والرد هيكون تمام أفندم غير كده أنا غايب، إذاً اتلغت لي الدورة.
بدأوا يندهوا، مسلسل واحد.. تمام أفندم.. مسلسل اتنين.. تمام أفندم.. ويجري الطالب من دول ويقعد على الأرض جنب زميله، والعساكر-أو زي ما بيسموهم هناك معلمين- يمروا علينا في وضع أشبه بمراقبة أسرى الحرب، وخدنا في ده ساعة ونص على الأقل.


دخلنا مدرج حقوق، لقينا باشا كبير كده -اسم الله على مقامه- العقيد (حسن) –أو (حسين)- وهو اللي ماسك الدورة في (عين شمس) بقى له أربع سنين ونص، وبطبيعة الحال هو اللي هيشرح لنا الهَلُمة دي كلها، قعد، قلع النضارة الشمس اللي غالباً بيسلموها للرتب الجديدة مع النجوم في الترقيات، وابتدى يتكلم ويشرح إن مَن لهم إعفاء نهائي هو الأعمي والأطرش وأي ذو عضو ظاهري ضامر، غير كده الكوميسيون الطبي هو اللي بيحدد حالته إن كان إعفاء نهائي أو عملي(تأجيل) أو بيتمرقع، والآخراني ده طبعاً له وضعه الخاص مع الباشا، فخرج ولد من المدرج على أساس إنه بتنطبق عليه واحد من الشروط اللي اتقالت، إلا إن الواد كان ماشي كده طول بعرض وأظن إن صحته أحسن مني، طلع للعقيد، قرّب ووطى يقول له كلمتين في ودنه وهو بيشاور على رجله واتعدل، لقينا العقيد شاور له إنه يرجع مكانه وهو على وشه شتيمه عيب عايزة تطلع، فأنا خمنت إن الواد أكيد صباعه الصغير فيه كالّو!! المهم وقت الكوميسيون الطبي كل واحد ابتدى يحسس على جسمه إن عنده مشكلة مُزمنة وهو مش عارف، يمكن يكون أعمى وهو مش واخد باله مثلاً، أو إنه برجل واحد وما خادش باله إلا لما سألوه هنا مثلاً، المهم نزل عدد كبير من الطلبة لحد ما المولد اتفض والراجل كمّل كلامه عن التربية العسكرية وقوانينها واتفق معانا على شوية حاجات، إلا إن في النص طلع له طالب بيسأله عن حالات الإعفاء والكوميسيون الطبي وفي إيده إشاعة، الكلمة الوحشة كانت هتطلع خلاص، إلا إن العقيد في الآخر افتكر إتفاقه إن مافيش إهانات من الطرفين، فشاور للواد إنه يروح، فإذ نفاجأ بكام واحد اكتشف إن عنده عاهة غالباً ونزلوا معاه، أو أظن إنهم قالوا إنه كشف ببلاش واللي يلاقي دلع ومايدلعش برضه..!! المهم العقيد ابتدى يكمل كلامه تاني، فرفع طالب اده بيسأل عن الكوميسيون الطبي بعد الواد اللي قبليه بساعة تقريباً، ولما نزل على السلم اكتشفنا إنه أعرج أصلاً!!


ابتدى العقيد يشرح مستوى الشعر المطلوب، ولما جيه عند الدقن، قال إن السوالف لازم تتحلق لحد العضمة اللي ما بين الودن والعين، وطلب من الناس تقول وراه وهي بتحط ايديها عند العضمة، فتلقى يا مؤمن ألف وخمسميت بغل كبير على وش تخرج رافع ايده وحاطتها عند العضمة وبيكرر ورا العقيد "عند العضمة أفندم" –أراهن كل من بيقرا إنه بيحسس على العضمة دي دلوقتي- لأن للتكرار أهمية مع العيال دي إلا إنه برضه مش جايب همه، زي الكوميسيون الطبي كده!!


في آخر اليوم وهما بيوزعوا الكارنيهات تاني بعد ما اخدوها الصبح، لاحظ ضابط قاعد جنب الميكرفون إن في واحد نِعِس، فمسك الميكرفون "اللي مسقَط ورا يقوم.. لا أحسن نفوقه بطريقتنا، أصل إحنا عندنا الخرارة برضه في الجيش، إنما هي بتختلف عن خرارة الشرطة!!" ماحدش ضحك، وبعدين هو كمِّل توزيع الكارنيهات والإجابة على الأسئلة الغبية بتاعة العيال، ولما سكتوا ومابقاش في سؤال.. "نرجع لموضوع الخرارة، هي جهاز صغير شبه التليفون الأسود القديم ده، وفولتها 48 دي سي، وطبعاً بتوع هندسة فاهمين ده يعني إيه.. نكمل، مسلسل 152.. مسلسل 153.." سرح شوية وبعدين رجع يقول لنا "طبعاً أنتم مش عارفين أنا مين؟!!" ماحدش بَين إنه مهتم أساساً "أنا بقى..." وقعد يهري يهري وما حدش مركز معاه، وقبل ما نخلص اليوم مسك الميكروفون "الخرارة دي بقى ليها سِلكين..."
لا حول ولا قوة إلا بالله!!
*    *    *

تاني يوم رحنا الصبح، وجيه وقت الطابور، الراجل بينده مسلسل واحد.. اتنين.. خمسة.. سبعة.. حداشر.. تمام أفندم!! إذ نفاجأ بواد مسلسله 11 من كلية تانية غير اللي بتتنده وقف وتمم حضوره من خوفه لا يتلغي له الحضور، وما خدش باله إن 10 و9 اللي قاعدين جنبه ما قاموش، بس أعجبنا بيه أوي.


المهم في النهاية، وقّــفونا عشان نعمل التمارين ما بين صفا وانتباه وإرتكاز؛ الإرتكاز ده معناه إني أنزل بركبتي الشمال على الأرض واليمين مفرودة في وضع الركوع، أما يدي فهي مسنودة على الرُكَب، وأثناء ما بأنزل بأقول بصوت عالي "حِد تنين!!" مش واحد اتنين، إحنا مش قاعدين في قهوة على رأي المعلم، إلا إني حسيت إن (حِد تنين) دي اللي مألفها هو (اساحبي) وهو على القهوة!! المهم، ممكن يسيبونا في وضع الإرتكاز ده لمدة عشر دقايق كاملة –وما أدراك ما هي عشر دقايق على ركبتك في وضع إرتكاز- وبعدين يلعبونا (بَر بحر)، يقعدوا يعيدوا ويزيدوا، انتباه ارتكاز، انتباه إرتكاز، حتى إني حسيت في مرة إنه هيقول إرتكاز مرتين واللي هيقف هيقول له عليك واحد!!


نيجي للخطوة السريعة، ودي بقى بأحط إبهامي –اللي بأبصم بيه- في الحِزام، وأجري في مكاني، قال إيه بقى، وأنا بأغني "طالع لك يا عدوي طالع.. طالع لك جبلاً من نار.. هأعمل لك من دمي ذخيرة.. وأعمل من دمك أنهار!!" مش عارف شدوها من على أنهي مايكروباص ولّا توك توك دي!!


خدنا فترة راحة وبعدين طلعنا المحاضرة، لقينا ظابط الخرارة قاعد وجنبه عقيد تاني واضح إن هو اللي عليه المحاضرة النهاردة، إلا إن طريقة كلامه كده تحس إنه أهطل وقليل الحيلة، ماحِلتوش غير صوته العالي، مع إن صوتك العالي دليل على ضعف موقفك، إلا إنه ابتدى يهري ويعرفنا عن المواد اللي هناخدها، فاكتشفت إننا –غالباً- هندرس فنون قتالية نظري فأعجبت بيهم أوي!! المحاضرة بقى بتتكلم عن أنواع أسلحة الدمار الشامل وفي النص العيال بقوموا يسألوه أسئلة في السياسة بتربكه إلا إنه كان بيهرتل لحد ما لاحظ اتنين عيال –أغبيا- قاعدين في المحاضرة من غير قمصانهم يا وديع، فقَومهم واداهم كلمتين في جنابهم، مع إن في واد منهم، ما يعجبكش كده يا مولانا، كان عنده جنب واحد مش جانبين لأ، وفي الآخر طلب منهم يقولوا "تمام أفندم" واحد قال وصاحبنا التاني -أبو جنب واحد- الجمهور كله قال له "لقد وقعنا في الفخ!!" وبرضه ما قالش تمام أفندم، فالعقيد حَبَكِت معاه لا الواد يقولها بصوت عالي وأعلى من الميكروفون كمان، دي خدت ساعة لوحدها، وفي النهاية العقيد استفسر إن كان في حد عنده سؤال، وسمح لولد إنه يتكلم بعد ما رفع ايده، إلا إنه لف واتكلم مع عسكري نفر ونسي إن في ولد بيتكلم وفي الآخر لف وقال لنا: "سلامه عليكم!!" ولم عزاله ومشي في حين إن الواد كان لسه ماخلصشِ كلام!!
رَوحنا يومها وإحنا لا كان لينا طلوع سلالم من بعدها ولا حتى مشي!!
*    *    *

تالت يوم أثناء التمرينات اكتشفت إن المفروض وأنا بأمسك حزامي قبل الخطوة السريعة بأقول "ييييه" وأثناء الجري بقى بأقول "صاه"، قال وإحنا اللي قاعدين على قهوة.


في الطابور علمونا إزاي نحيي رتبة أعلى بإني بأرفع ايدي على الجبهة، في وضع 45 درجة، تبقى راحة ايدي لا هي في وشي ولي هي في وش الرتبة، وأقول بصوت عالي كده بمنتهى الفخر "هوب حِد تنين تلاتة هوب" يعني أنا لما أجي أحيي رتبة مهمة بأقول هوب، الصراحة وهو بيعيد تاني وبيقول هوب كنت عايز أرفع ايدي وأقول له: "أيوا، أنا عندي نفس المشكلة أفندم!!" بس مارديتش عشان أنا راجل وبأشرب بيريل، وعملت هوب عشان الدورة ماتروحش عليك يا بوب، وسكت!!


في الوقت ده، بتبقى محتاج أي حاجة تطري عليك، وبتبقى أي نكتة سخيفة أو تعليق عادي بيموتك من الضحك؛ ما هو لما ينسونا في وضع الإرتكاز كالعادة وزميلك يقول لك: "إيه القاعدة اللي إحنا قاعدينها دي؟!! دي قاعدة الحمام أحسن منها!!" وأنت تضحك من قلبك وتعجب كمان باللي اتقال، يبقى أنت أكيد في التربية العسكرية!!


أهم حاجة إن الخطوة العسكرية هي دايماً اللي بتبين لي إيه هي التربية العسكرية بجد؛ مش طلع في باقي للأغنية؟!!
"طيارة.. طيارة فوق
دبابة.. دبابة تحت
وربنا.. ربنا فوق
وعباده.. وعباده تحت
عبد الناصر قالها زمان
وحوش الصاعقة في الميدان..."
وهلم جر لحد آخر حتة، ودي بقى كله اتزاول فيها وهو بيتعلمها
"..بص يمينك
بص شمالك.."
طبعاً ماحدش قال، وغَنَم بقى، أربع كليات كده على وش تخرج بصوا يمين وبصوا شمال مع إن الكلام هو بقية النشيه، إلا إن اللي جاي أحلى
".. بص يمينك
بص شمالك
تلقى وحوش (عين شمس) أمامك!"
كنت هأقوم في الآخر وأقول
"بص شوف
(عين شمس) بتعمل إيه
بص شوف
(عين شمس) بتعمل إيه"
بس فكرت إن تي-شيرت الكورة مش معايا، فلزمت الصمت، وقررت إني أبقى أجيبه المرة الجاية!!


دخلنا المحاضرة بعد فترة راحة أقل من بتاعة إمبارح، مالقيناش عقيد يقول لنا أي كلمتين في الهوا، إلا إننا لقينا المعلم بتاع طابور الصبح قاعد، فِضل يكلمنا، لحد ما أي حد يجي، عن إننا لازم نستحمل عشان نخلص وإن بجد هو كمان تعبان وقعدنا نسمع قصة كفاحه
"أنا بأجي كل يوم الصبح
وبأقعد أنبح في صوتي
وبعدين بأجري على الوحدة بتاعتي
وبأبقى تعبان وعايز أنام
لكن بيبقى عندي شغل بالليل
وبعدين وأنا صغير..
وأنا صغير
كان عندنا (إدريس) في البيت
وبابا وماما كانوا دايماً مشغولين
وكان بياخدني عند حتة اسمها (المواسير)
وكان.. كان.. لأااااا..."
طبعاً آخر حتة دي من عندي لكنها بتوصف الصورة صح، بس اللي أكيد إننا لو كنا صبرنا عليه شوية، كان حكى لنا عن مشاكله مع صاحبته، بس الوقت ما اسعفناش!!


شوية كده وجيه راجل لابس أخضر في أخضر، ماتعرفلوش إن كان عقيد ولّا رائد ولّا ظابط ولّا عسكري نفر، وقال لنا إن في حملة للتبرع بالدم لصالح مستشفى (عين شمس التخصصي) وقصاد كده كل من اتبرع من حقه يرَوح مايكمِّلش المحاضرة، تِلت الناس قامت وأنا معاهم، نزلت واتبرعت بالدم، أما عن المحاضرة بقى، فالله بالسر عليم!!
*    *    *

mercredi 9 mai 2012

حلوة يا بلدي (3) – المنصورة..!!


بعضنا يبدأ يومه بإلقاء السلام على أول شخص مستيقظ يقابله
والبعض يكتفي بغسل وجهه كبداية ليومه


بعضنا يبدأ بشكر ربه على نعمة الحياة
والبعض يكتفي بالإبتسام في وجوه محيطيه


بعضنا يفضل ترتيب سريره
والبعض يكتفي بشرب القهوة إستعداداً ليوم جديد


أنا أبدأ يومي بالتفكير في حياتي
وبشكر الله عليها
وأدعوه لمشاركة يومي
فأسرد أحداثه
وأكون إما رتبتها أو توقعتها بحسب معرفتي بظروف اليوم
إلا إن الحياة –في النهاية-
دائماً ما تفاجئني
وأنا لا أنفك أرتب وأتوقع!
*   *   *
كنت قد بدأت عشية سفري للـ(منصورة) في الإستعداد للإمتحانات بالمذاكرة، واندمجت، لدرجة كنت أتمنى معها ما يمنع السفر، حتى وأنا في السرير أستعد للنوم، فيتسنى لي معاودة المذاكرة، إلا إن الرياح أتت كما اعتادت أن تأتي.


استيقظت في اليوم التالي، أشعر بإرهاق، قمت بما اعتدته على عجل، فكرت أن يومي سيمتليء بالأحداث، فقد كنا حددنا خمسة عشر مكاناً للزيارة، إلا إن انتابني إحساس معاكس أن اليوم سيكون أقل إزدحاماً مما أتوقع.


حضّرت حقيبتي صباحاً –على غير عادتي المنظمة- ثم جهزت ما أكله ببيتي وما أكله في أرض الله الواسعة فيما بعد، فأتاني هاتف من (أحمد) الذي يسكن على بعد ساعة ونصف الساعة بالسيارة من محطة القطار يبلغني بوصوله وأنا في بيتي على بعد ثلاث دقائق مع محطة القطار.


خرجت عل عجل وأنا أشعر أن هنالك ما نسيته إلا إني أدركت في نهاية يومي أن ظني لم يكن في محله، اعتليت كوبري (السبع) جرياً حتى وصلت لناحية شارع (رمسيس) وانتظرت مايكروباص يوصلني للمحطة بين رغبة في الإستغناء عن مواصلة تأخرت على غير عادتها وميل لإنتظارها، إذ إن المشي لن يقل عن خمسة عشر دقيقة، إلى أن وصل فوصلت.

*أقترح تشغيل موسيقى اخترتها قبل البدء في قراءة هذه الفقرة بالضغط هنا*
قابلت (أحمد) وتوجهنا لنكتشف تغير الرصيف المعتاد لنا، بحثنا عنه وركبنا إلا إننا لم نجد مقعد خالي –ممكن لأن قطارنا يبدأ مسيرته في التاسعة والربع، بينما قطار (طنطا) و(دمنهور) بدأ في الثامنة والنصف- مشطنا القطار حتى العربة الأخيرة إلى أن لزمنا الوقوف.


مر علينا الكُمسري وسألنا عن التذاكر التي كنا قد أريناه إياها  في عربة سابقة فأجبناه "تمام خلاص!" فابتسم لنا ومضى يسأل من يقف وراءنا فأجاب "محاربين" فأغمض الكُمسري عينه متفهماً دون أن يسأله إبراز بطاقة المحاربين القدامى، فلمعت في عقلي أنا و(أحمد) فكرة إدعاء الـ(خلاص تمام) أو حتى (محاربين) –بالرغم من صغر سننا- في الرحلات القادمة، وعجبي!


بدأ القطار في الحركة ففوجئت بإندفاع عدد من الناس يثبون بداخل القطار، ليزيدوا على ضيق العربة ضيقاً، إذ إنهم كانوا ينتظرون إنطلاقه وهم في الهواء الطلق –ولاد المحظوظة!- على أن يلحقوه في بدايته، إلا أن الأمر تعدى ذلك، فأثناء ابتعادنا عن المحطة أو حتى عن أي رصيفٍ كان، لمحت شخص يجري على القضبان الحديدية بمحاذاة القطار، فهمت ما يحاول فعله إلا إني استبعدت الفكرة واعتبرت نفسي ساذج، إلا إني رأيت من يشجعه، فاعتبرته ساذج بدوره، حتى اقترب الرجل من القطار وامسك بذراع حديدي يحف الباب وقفز على درجة أمام الباب فافسحوا له المجال فدخل، مثله مثل من يجرون للحاق بالحافلة بعد استباقها المحطة حتى أن بعضهم لا يدركونها –المصري دايماً معروف بقوته وجبروته!


انتظرنا أنا و(أحمد) حتى المحطة القادمة لعل العدد يقل فنجد ما نتنفسه من هواء قبل أن نجد ما نجلس عليه من مقاعد أو حتى أرضية القطار الفارغة إلا أن ما حدث في محطة (شبرا الخيمة) كان أسوأ مما يحدث في محطة مترو (الشهداء)، من كان نيته النزول بالتأكيد عدل عنها، ومن كان نيته استنشاق الهواء تخلى عنها، ومن كان ينظر نحو مقعد عله يجلس عليه، غض الطرف، فقد دخلت جحافل من البشر يطلبون منا الإفساح لهم على طول الممر بين المقاعد، حتى يستطيعوا الوقوف أو على الأقل يتفادوا السقوط، خاصةً ما نادى به المسئول.


ذيّل المجموعة التي دخلت شخص قصير أصلع الرأس، له شارب كث يمتد حتى مقدمة ذقنه، له لون أقرب للبني يتماشى مع لون بشرته القمحية وملامح وجهه الغاضبة
-      وسع يا ابني أنت وهو الطرقة ورا فاضية
وسع يا ابني للمسئول!
-      طب نروح فين ما المكان زحمة زي ما أنتَ شايف!
-      طب والمسئول يقف فين بقى؟!!
في مسئولين واقفين على الباب،هنقع، إحنا على بعد سنتيمترات منه!!
-      هي اسمها سنتيمترات برضه؟!!
-      خلاص، على بعد كام سنتي متر!
مش كفاية إني نزلت عشان أشوف الغلابة وأعيش معاهم؛ أنا قلت للسواق يركن العربية قصاد المصلحة لأني عايز أحس بالغلابة!
-      هو أنتَ مسئول عن إيه بقى؟!
-      أنا مسئول عن نفسي!!


الغريب إنه طوال الوقت يقاوم بقوة ضحكة تطل على شفتيه لتضفي طابع كاريكاتيري على شاربه الكبير –أكانت عيونه خضراء؟!!- وملامحه القاسية بطبيعتها بوجود علامة الـ111 الدائمة في سحنته.
أبتسمت لـ(أحمد) ثم ابتسمنا للرجل الذي بادلنا الابتسام، بعدها تابعنا البحث عن جزيئات الهواء والوقفة المريحة والستر.


انتظرنا حتى محطة (بنها)، وخف عدد البشر، فجلسنا في أول مقاعد متاحة لنا، إلا إننا تباعدنا على أمل الرجوع في المحطة القادمة، فجاورت ثلاث شباب استمتعت معهم إلى الحوار التالي
-      أنتَ إيه بقى اللي قافشك من يَمّتي؟
-      ما فيش
-      لأ ضروري في حاجة
-      قلنا ما فيش
يتدخل ثالثهم الذي يجلس قبالتي
-      ما قال لك ما فيش
-      اسكت أنتَ أنا بأكلمه هو!
وينظر لمن يجلس عن يساري قبل أن يعبث بجيب قميصه ليجد علبة سجائر فارغة، يضمها في راحته ثم يلقي بها من نافذةلم يستطع فتح زجاجها، فخلعه من إطاره!
بعد هنيهة سمعنا من ينادي "سجاااااير سجااااير، كابتال، رويال، سجااااير!"، فينادي أحدهم
-      يا كابتال تعالى
-      أيوه تعالى يا كابتال، هات تلاتة
-      هي السجاير دي صيني؟
-      لا طبعاً مش صيني، مش كده يا عمُنا؟!!
يجاوبه البائع:
-      لأ طبعاً، كابتال دي قطري، مش صيني زي رويال. دي كابتال دي أحلى وأنضف حاجة!
يرحل البائع فينظر الجالس عن يساري إلى خصيمه المواجه له ويبتسم
-      يعني هنشرب سجاير ببلاش النهاردة؟!!
-      ببلاش ده إيه؟!!
ما أنا لسه دافع عشرة جنيه قصادك أهه في التلات علب


ينهي كلامه ويفتح العلبة الأولى، يزيل السيلوفان ويرميه من النافذة، ويوزع السجائر فاعتذرت لأني لا أدخن، وإن كنت أدخن فلن يختلف رد فعلي تجاه السجائر الكابتال.


شربوا السيجارة الأولى فأخرج (إبراهيم) من جيبه چوان –على حد قوله- عرفت أن اسمه (إبراهيم) لأنه عندما نادى شخصٌ ما في المحطة "يا إبراهيييم"، أخرج رأسه واجاب "اتفضل!" فانتهره خصيمه الجالس عن يساري "يعني هو ما فيش إبراهيم غيرك؟!!" ابتسم (إبراهيم) وسأل "أولعه؟!!" مشيراً إلى الچوان فرد الجالس عن يساره "طب ما بلاش دلوقتي!" إلا إن (إبراهيم) أشعله ومرره على الجالسين، حتى من كان يرفض شرب، وإن كنت قبلت السجائر، لـمَرّ عليّ أيضاً. انتظرت حتى انتهوا منه وحبسوا بكوب من الشاي السكر الزيادة وما أن جاءت المحطة حتى وجدت من المقاعد ما يكفي أن يغير كلانا –أنا و(أحمد)- مقعده.


تخطينا محطة (بركة السبع) حتى وصلنا لـ(طنطا) مروراً بجامع السيد البدوي بمنظره المهيب في واجهة المحطة بعد حوالي ساعة ونصف الساعة إنطلاقاً من القاهرة وانتظرنا هناك حوالي نصف الساعة دون أن نعرف السبب حتى صدمنا قطار؛ نعم، كما قرأتموها، حيث إننا في آخر عربة فقد رأينا القطار قادم وتوقف بعد أن صدمنا صدمة خفيفة إلا إننا شعرنا بها، لم نلبث أن اكتشفنا إنه لا يتعدى عربة الجرار إذ أن مسار القطار أن يتراجع القهقري  وتصبح آخر عربة هي أول عربة بعد الجرار.


انطلق القطار في الاتجاه المعاكس وأنا أتوقع أن تكون المحطة القادمة هي (المنصورة) على الأقل إلا إننا فوجئنا بمحطة مهجورة اسمها (محلة روح) تابعة لـ(طنطا)، تخطيناها حتى (المحلة الكبرى) مروراً بـ(سمنود) فلمحنا محل أمام المزلقان حيث سوق الفاكهة والخضروات والتكاتِك المنتظرة مرور القطار، وبالضبط في شارع (السكة الحديد)، مكتوب عليه (درينكيز)، أيضاً أؤكد على ما قرأتموه، درنكيز (سمنود) وعلى بعد ثلاث عمارات منه، لافتة أكبر من لافتات مرشحي الرئاسة تغطي واجهة إحدى البيوت لتعلن عن صدور الألبوم الشعبي الجديد (حِنَين)، بجانب درنكيز (سمنود).


عبرنا (سمنود) مروراً بـ(ميت عساس) و(طلخا) حتى وصلنا لمدينة (المنصورة) بعد ثلاث ساعات متواصلة على مقعد قاسي –يا كَفَرة!- بعد خط سير يتمثل في القاهرة – شبرا الخيمة – بنها – بركة السبع – طنطا – محلة روح – المحلة الكبرى – سمنود – ميت عساس - طلخا – المنصورة، وأنا الذي توقعت وصولنا في ساعتين كحد أقصى، وللرياح الحق دائماً أن تأتي كما تشتهي.




وصلنا وكان قد لفت نظري من البداية مرورنا على كوبري يوصل ما بين (طلخا) و(المنصورة) يشبه ذاك الذي في (إمبابة)، إنما لا يوجد به ممر للسيارات، وممشى البشر على نفس مستوى القضبان بعكس كوبري (إمبابة) الذي يعلو فيه الممشى فوق مستوى القضبان الحديدية، ويبدو إنهما في نفس المتانة وأظن إنهما يخصّا نفس المصمم إنما جعل كوبري (إمبابة) أجمل.


نزلنا وأول ما نزلنا توجهنا نحو مدرسة (العائلة المقدسة) ثم انحرفنا يساراً بحسب توجهيات أحد الأصدقاء من (المنصورة) نحو شارع (المختلط) الذي رأينا فيه بيوت ومدارس لها طابع المعابد اليونانية، ومبنى المحكمة ذو الطابع الأوروبي المميز للعين، وأعجبنا كثيراً إحتفاظهم بلوحة رخامية على يسار المدخل تحمل اسم المحكمة بالفرنسية " محكمة إستئناف المنصورة 15 أكتوبر/ تشرين الأول 1949"، التقطنا لها صورة سريعة وانطلقنا نبحث عن شوارع (توريل) بحسب الخطة الموضوعة.


ما يميز الناس هناك أنهم خجولون وفي حالهم، فعندما سألنا أكثر من شخص عن شوارع (توريل) كان يتخطانا هو ومن معه وكأنهم لم يسمعونا، فإن كانوا في خضم حديث قطعوه، وإن كانوا متمهلين أسرعوا، وإن كانوا مطرقين تشبثوا برؤية السماء، حتى عثرنا على شخص يمكنه الكلام فدلنا، توجهنا ونحن نتسأل، إن كان هذا هو الحال مع شباب في عمرنا أو ينيف، فما هو الحال إذا سألنا فتاة؟ أينتهي بنا الحال بقسم الشرطة بتهمة التحرش الجنسي؟!!


تخطينا شوارع (توريل) الخالية الآن من الڤِلَل القديمة بعد أن هدمت، ووصلنا لشارع (البحر) بحثاً عن ڤِيلا (غيث) وقهوة (أندريا)، فلاحظنا الإهتمام العام بالنظافة في (المشاية) أمام الكورنيش، فالأرض نظيفة بشكل ملحوظ، يضيف على جمال الشارع نخل يتمايل أمام خلفية من المباني والبيوت الجميلة، إحداهم يعلوه بيت حمام لم يؤذي المنظر العام بل –يا للعجب!- أضاف جمالاً فوق جمال.




وقفنا على كورنيش النيل نستمتع برؤية البحر –طبعاً- ومشهد المراكبية تحت كوبري (إمبابة – المنصورة) ونتسأل عن كنه هيكلين حديديين في وسط الماء. انتظرنا ما يكفينا من الوقت وانطلقنا نبحث عن ڤِيلا (غيث)، وقررنا سؤال رجل كبير في السن يبدو عليه الإحترام له شارب وذقن طفيفين ويرتدي بذلة وبيده حقيبة، كل ما يتجمع في مظهر رجل بالغ، توجهنا إليه بالسؤال إلا إنه تخطانا في باديء الأمر ثم تراجع بهدوء حذر، وأكاد أقول بإحتراس خجِل أيضاً وتسأل ڤِيلا (غَيْث) بفتح الغين، وعندما أكدنا له تساؤله وصف لنا مكان الڤِيلا بوصف دقيق يعتمد عليه فشكرناه ومضينا في طريقنا.


في الطريق اكتشفنا المقدرة الفنية لأهل المنصورة على إبراز فن الجرافيتي عند أحد الأنفاق، فقد كان بمثابة متحف مفتوح لفن الجرافيتي الراقي يسبق مقدرة رائعة على رصف قطع الفسيفساء بشكل دقيق على نفس حائط النفق، جذبني إليه دقة الإهتمام بالتفاصيل والإعتبار للضوء والظل على عكس الفسيفساء المعتادة التي تقدم فن ذو بعدين اثنين فقط ومن ثم لا داعي للإهتمام بالضوء والظل، حتى تدريجات الألوان كانت رائعة.










أكملنا مسيرتنا حتى ڤِيلا (غيث)، صورتها دون أدرى بها أكثر من كونها مبنى قديم لا بأس بمنظره، ثم اكتشفنا بالصدفة أنها مبتغانا، إلا إني لم أجد ما هو مميز بها عدا إنها قديمة، يزين مدخلها تمثال لـ(أنيس محفوظ) بحسب إدعاء حارس الڤِيلا، إلا إني لا أعرف من هو (أنيس محفوظ) ذاك ويبدو من الخيط المربوط حول رقبة التمثال أن هنالك من حاول إسقاطه.


اتجهنا بعدها نبحث عن محطتنا القادمة وعن شارع (محمد فتحي)، دخلناه فلم نجد ما يجذب الأنظار فبحثنا عن مقهى نرتاح به إلا أن ما وجدناه بداخل الشارع لم يشي براحة في نفوسنا فخرجنا، إلا إننا عرفنا فيما بعد أن الشارع يحتوي على تجار مخدرات، فتسألنا إن كان الحشيش يقدم مغلي مع الشاي، أم يقدم الشاي والحشيش بره؟!!


اتجهنا نحو محل بقالة وسألناه عن أقرب مقهى فأشار لنا على المقهى الموجود بشارع (محمد فتحي) ولما رفضنا اقترح علينا الذهاب لمقهى (أندريا)، وصفها لنا فاتجهنا، وفي الطريق وجدنا تعاون من البشر بعكس ما رأينا أول ما وصلنا، فلم نفهم طبيعتهم، إلا إننا سلكنا حسب إرشاداتهم.


في الطريق لاحظنا التجاهل العام بآثار المنطقة، فذاك بيت قديم مهدم أو آيل للسقوط، وذاك مسجد مكتوب عليه (مسجد الشهيد الطيار محمدنو 1291/1907) تحولت واجهته لموقف أوتوبيسات، وذاك مبنى يحتاج إلى الترميم، إلا إن الإهتمام بما هو جديد ومتمدين أخذ حقه بشكل معقول؛ أيضاً لا حظنا أن الإدعاء بأن أهل (المنصورة) لهم من الملامح الأوروبية نصيب الأسد إثر إحتكاكهم بجنود حملة (لويس التاسع) هو إدعاء لا أساس له من الصحة، فهم مصريين أكثر مني ومنك، لدرجت شعرت معها إني أجنبي أكثر منهم.
حتى الآن خُدعنا في كل مدينة نروحها، خُدعنا في حلاوة المولد بـ(طنطا)، فقد كانت عادية، وخُدعنا في حلاوة أهل (رشيد)، فقد كانت أطعم مما سمعنا من إفتراءات، والحلاوة العامة لأهل (المنصورة) حيث أن من بينهم ما ترجع أصالته العرقية للتشبه بتماثيل المتحف المصري.


أغرمنا بمقهى (أندريا) من أول طلة، دخلنا وطلبنا ما نشربه وجلسنا ننتظر، فترامت إلى مسامعي حديث يدور بين مرتادي المقهى ممن يجلسون قبالتي، كانوا يتكلمون في السياسة و عن سباق الرئاسة، وكل واحد فيهم ينظر في جريدته، فملت برأسي للأمام قليلاً طلباً في الراحة، فظن أحدهم إني أحاول إستراق السمع فوجه لي الكلام "مش كده برضه؟!!"


كان عم (سيد) له ملامح شخص رأى في حياته من الخبرات ما يكفيه للحديث بهذه الثقة، كان يبدو من طريقة كلامه إنه إما حرفي يجيد الفصال أو بائع شاطر وكنت لا أتبين إن كان بغير أسنان، أم أن أسنانه هي السوداء؛ كان يتحاور مع الرجل عن يمينه بينما يقوم الآخر بعادة غريبة وهي أن يصب الماء في كوب القهوة بعد أن يفرغ منه، فيمتليء بذاك السائل الأسود، فيتجرعه على مهل، وقبل الإنتهاء منه كان يعيد ملئه مرة أخرى حتى نهايته ليتجرعه بهدوء وكأنه ما يزال قهوة وساخنة، المهم أن ما يضيف من كاريكاتير على المشهد أن الرجل نفسه يشبه (كارل)، الشخصية الرئيسية في فيلم (آ پ) بشعره الأشيب المميز والنظارة السوداء فوق بشرة ناصعة البياض إنما أميل للحمرة، يرتدي بذلة كاملة ويتكلم ببطء إنما بحماس بعكس الشخصية الكارتونية إلا إنه في النهاية يعاني من مشاكل في السمع مثل (كارل)، وحين يتحدث تتأكد أن فمه خالي من الأسنان بشكل يصيبك بأزمة أثناء سماع بعض مخارج الألفاظ في كلمات بعينها؛ لمحته يصف لشخص مكان بنك بدقة متناهية، ففكرت أن الدِهن في العتاقي وتوكلت على الله وسألته عن مكان محطتنا القادمة (صاه الحجر) المعروفة باسم (صان الحجر) وهو مكان أثري، فأعلن جهله بالمنطقة وهنا تدخل عم (سيد) ليشرح لنا أن (صان الحجر) يسمى أيضاً (بيت الحجر) والمنطقة تقع بالقرب من (بيت الغُـــرَق) بضم الغين وفتح الراء، فتدخل الشخصية الكارتونية ليعلن لنا إنها مكان لممارسة السحر والشعوذة
-      هو أنتم رايحين تعملوا عمل ولّا تفكوا عمل، ولّا رايحين تتفرجوا وخلاص؟!!
-      لا، المكان فيه آثار وإحنا رايحين نتفرج عليها!
-      قول لي طيب بس، رايحين تعملوا العمل ليه؟!!
-      إحنا رايحين نشوف الآثار عشان ده مجال دراستنا
-      أنتوا قلتوا لي بتدرسوا إيه؟!!
-      إرشاد سياحي
-      آه، قلت لي، أنتوا منين بقى؟
-      من القاهرة
-      أه، أهلاً!!
وانقطع الحديث حتى أتاتني خبطات رقيقة على كتفي الأيمن، التفت فوجدت شاب يجلس ورائي، سألني إن كنا نبحث عن (صان الحجر)، فرددت بالإيجاب
-      بص، أنا ساكن قريب منها، واللي بيقولوه ده غلط
-      أنتَ عارفها كويس؟! فيها آثار دي، مش كده؟!!
-      آه، أنا زرتها أكتر من مرة
-      عجبتك؟!
-      جداً!!
صدقته لأن عينيه ألتمعت ببريق لما ابدى إعجابه بالمنطقة أشبه ببريق عينيّ (خالد النبوي) في فيلم (المهاجر) عندما وجد الميه الحلوة، سمعته فسرد لي طريق الذهاب بصوت منخفض أولاً، ثم أنهى ما كان يشربه وسرد الطريق مرة أخرى بصوتٍ عالٍ ليخبرهم إنهم كانوا على خطأ، فرد عم (سيد)
-      إيه ده هو أنتوا كنتوا عايزين (صان الحجر)؟!! وأنا اللي كنت فاكركم عايزين (بيت الحجر).
ألا هي (صان الحجر) دي مش قريبة حتى ولو حتى من بعيد من (بيت الغُـــرَق)؟
-      لأ، مش قريبة منها خالص!
-      طب مش كنت تقول؟!! سامعنا عمّالين نقول للناس وأنتَ عارف الطريق وساكت!!
فيتدخل الشخصية الكارتونية
-      كنت هتَوّهم يا سيد –هكذا عرفت اسمه-  وكنت هتوديهم (بيت الغُـــرَق)!!
لكم أن تتخيلوا خروج كلمة مثل (الغُـــرَق) من فم شخصية كارتونية بلا أسنان، لتدركوا المجهود الذي قمت به لأتمالك نفسي عن الضحك، إلا إني في النهاية سألتهم وهم مجتمعين عن منطقة اسمها (خلوة الغلبان) كنت قد قرأت كتاب بنفس الاسم لـ(إبراهيم أصلان) بالصدفة في الأسبوع الذي أرجأنا فيه –بالفعل- سفرية (المنصورة)، فاهتميت أن أراه، إلا إني في النهاية لم أدركه لعدم معرفتهم به، شكرناهم ودفعنا ما علينا وانصرفنا.
-      اوعوا تروحوا (بيت الغُـــرَق)!!


قبل أن نتجه لـ(صاه الحجر) –بعيداً عن (بيت الغُـــرَق)- قررنا المرور على (دار ابن لقمان) ومتحف (المنصورة) إلا إننا وجدناه مغلق بشكل لا يتعارض مع نظريتي السابقة عن إهمال الآثار، فخرجنا لنتبع مسار الشاب.


ساعدنا الناسُ في الوصول للموقف فركبنا مايكروباص يتجه نحو (سندوب) ثم مشينا حتى (المنزلة) وتوجهنا لموقف (الجمالية) لأخذ مواصلتنا لـ(صاه الحجر) إلا إننا اكتشفنا وجود العديد من المواقف بجانب موقف (الجمالية)، فهنالك طريق (الزقازيق) إلى (فقوس) ثم مواصلة حتى (صاه الحجر)، أو طريق (الإسماعيلية) مع إعلام السائق بوجهتنا سلفاً، أيضاً أن أركب حتى موقف (التلاجة) وأخذ مواصلة نحو (كفر فارس) أو (أبو فارس) ومن هناك ما يوصلني إلى (صاه الحجر)، إلا أن الكل أجمع على أن المسافة تحتاج حوالي ساعتين على الأقل، ولم يكن الوقت في صالحنا فعدلنا عن رغبتنا ورجعنا صوب محطة القطارات.


في القطار وجدنا مقاعد خالية بسهولة عكس الصباح، كما أن الكمسري يتعامل بحرفية أكثر من نظيره في الرحلة الصباحية، إذ أنه في كل محطة يأتي كمسري مختلف ليتحقق من التذاكر، حتى إنه اضطر بمرور الوقت أن يصحب مصباح كهربائي صغير لينجز به أعماله، مثله مثل صبي السينما الذي يصحب الزبائن لمقاعدهم على ضوء كشاف صغير تصحبه جملة "كل سنة وأنتَ طيب يا باشا!"، إلا أن المقولة لم تصحب الكمسري بأي حال؛ حتى إننا وجدنا أن حتى الباعة الجائلين يحفظون النظام ويحضرون المصباح الكهربائي.


ما لفت إنتباهنا هو وجود صف من المقاعد مكتوبٌ عليه بخط اليد "وزارة الداخلية، نقطة شرطة القطارات، ممنوع الجلوس"، ويجلس تحتها اثنان من العساكر النفر طاعني السن، لم يقوا على النظر إلينا عندما صورنا اللافتة على ضوء الفلاش الصادر من الكاميرا في ظلام قطار بلا مصابيح ولا أنوار.


في النهاية وصلنا القاهرة، شعرت ساعتها بإستقبال الباحة الرئيسية للمحطة بلونها الأصفار، ينم عن حميمية أراحتني من عناء سفر طويل، فخرجنا لتستقبلنا أرضية الأسفلت الباردة بصمت بليغ ولّد فينا إحساس فيما يشبه الوطن!