lundi 23 avril 2012

حلوة يا بلدي (2) – رشيد..!!


أتدركون تلك النشوة؟!!
عندما تبدأ في تحقيق حلم
كان يتابعك من سن المدرسة
وإن كنت لم تستوعب إمكانية تحقيقه
وبات ناضجاً في وقت
تملك فيه كل الإمكانيات لتحقيقه
أتدركونها؟!!


هي حماسة تتخطى مقابلة فتاة تحبها
هي لهفة تتعدى ترقبِك للّحظة التي يقول لِك فيها
أحبكِ أنتِ وحدِك
هي قشعريرة تشبه مشاهدة الخطوات الأولى لإبنَك
هي إبتسامة تقترب من تلك التي تعقب توهمِك لركلة ابنِك في عمق رحمِك
برغم نفي الطبيب لإمكانية حدوث ذلك في الشهور الأولى من الحمل!


إن كان لي أن ألون المشاعر
فما أشعر به
لونه أزرق زرقة الفجر
تنتابه أشعة شمس قوية
غير منطقية في هذا الوقت من اليوم
تنزل أشعتها الواضحة على غابةٍ كانت أو حديقة هي
لها عشب أخضر ينتهي بأشجار متلاصقة
ويضفي اللون الذهبي المميز لأوراق الخريف
لمعان على إخضرار المكان
فتتفجر في نفسي هيبة تخيفني
وحنين يدركني
هل فهمتموني؟!
هل وعيتم بما يختلجني من مشاعر؟!
*   *   *
أستيقظت صباحاً وأنا أشعر بلهفة أصدّها حتى أشعر أن ما أفعله هو المعتاد ولا يحتاج لحماسة، لأستوعب أن من روتين حياتي الممل أن أحقق حلمي، غير إني كنت فتاة تتحسس موطيء قدميها بحذاء عالي الكعب فوق أرضية من السيراميك تمنعها عن الرؤية صينية بها مشروب العريس، إلا إنها –في النهاية- تنزلق؛ وبالمثل، يطفو على وجهي التوتر.


حضّرت ما أكله في بيتي وآخر للطريق، تلافيت بعض أخطاء الحمولة من المرة السابقة، ودّعت من استيقظ من أهلي وأعرتهم السلام ثم انطلقت.


وصلت لـ(محطة مصر) مبكراً عن الميعاد المتفق عليه بخمس دقائق فاشتريت تذكر القشاش وانتظرت (أحمد) الذي تأخر خمس دقائق كانت ترتج فيها أغنية للشيخ (إمام) بداخل ثنايا عقلي اسمها "الله حيّ"، انتهزت الفرصة وأخرجت هاتفي لأستمع إليها حتى وصل (أحمد).
*   *   *
الله حي
الله حي
وسّع سكة يمر الضَي
شيخنا العاشق
جاي وراشق سهمه
وماشي حِدَي بِدَي
الله حي
الله حي
وسع سكة يمر الضَي
*   *   *
دلفنا إلى القطار، ولمن لا يعرف طبيعة القطار العادي فهو لا يلتزم بترقيم مقاعد كما لا تتعدى حجم التذكرة عرض عقليتين اصبع من الورق المقوَّى. ندخل فنبحث عن مكان يناسبنا والسلام، وأثناء بحثنا لمحنا تكرار ظاهرة لعب أوراق الكوتشينة على كارتونة شيبسي فارغة توضع كمائدة على شكل جسر يستند على رُكَب اللاعبين، وفي النهاية صادفنا البائع المسئول عن هذا الكازينو المتواضع.


يختلف بشكل عام البائع المتجول في القطار عنه في المواصلات العامة، ففي المواصلات العامة يمر البائع رامياً بضاعته في حضن الراكب مدى لا تتعدى الربع ساعة يمر فيها من أول الحافلة حتى آخرها ثم رجوعاً إليك خاصة إذا كانت الطرقة ورا فاضية يا إخوانّا، كما يتوقع البائع أن يركب الحافلة في (رمسيس) لينزل في (غمرة) على الأقل، باحثاً عن رزقه في مكان مختلف؛ أما في القطار القشاش، فتظل البضاعة في حضنك ما يقرب من ساعة أو أكثر تراودك فيها نفسك أكثر من مرة بشراء البضاعة، خصوصاً بعد ميلاد الأُلفة فيما بينكم، ولولا وجود من يسري عنك لإشتريت كل بضاعة مرت على حضنك خصوصاً بعد العِشرة والحوار الذي دار بينكم، كما يركب البائع القطار من (القاهرة) ويمر بكل عربات القطار لينزل بــ(طنطا)، إن كان ينزل أصلاً.


اتخذنا طريقنا لـ(رشيد) عن طريق (دمنهور)، ويتخذ الطريق حتى (دمنهور) حوالي ساعتين ونصف الساعة إن لم يكن أكثر، فجعلنا نتحدث أنا و(أحمد) عن مجريات حياتنا، حتى تمر (سَحَر) -يااااا يا سَحَر!!- وتغلق باب العربة بشدة وكأنه باب غرفتها ومعتادة عليه.
(سَحَر) كانت الشخص الذي يسلينا في طريق العودة من (طنطا)، تدخل (سَحَر) فتجد من ينتظرها من رواد القطار الدائمين غالباً، تعرفهم ويعرفونها، تأخذ السيجارة فتمزح معهم، ولا مزاح بدون سيجارة.
القطار يسرع و(سَحَر) تمزح
القطار يبطيء و(سَحَر) تضحك
النور ينقطع و(سَحَر) تهذر
النور يرجع و(سَحَر) تقهقه
توقعنا رؤيتها في المساء أثناء العودة إلا أن ما حدث لم يكن في الحسبان!
*   *   *
نزلنا من محطة القطار وسألنا عن مايكروباصات (رشيد)
-      لو سمحت نروح رشيد إزاي؟
-      بص يا باشا، أنتَ تطلع السلم مع الناس هتلاقي على يمينك –لا مؤاخذة- كنيسة، تركب من قدامها ماكروباز لحد الموقف ومن هناك خد أي حاجة لرشيد.


خرجنا من المحطة واستقلينا مايكروباص حتى الموقف وركبنا إحدى عربات الـ(دودچ) القديمة كوسيلة مواصلات نحو (رشيد) وانتظرنا أن يكتمل عدد 14 راكب.


اقتربت فتاة تبلغ من العمر -في تقديري- ما بين 12 و14 سنة تستعطف الناس طلباً في الصدقة فأعلن رجل طاعن "إحنا على باب الله يا بنتي!" ولم يعر الباقون إهتماماً، فكررتْ السؤال ولم يكن من الرجل الأكثر فقراً بحسب هيئته وبحسب إعلانه السالف إلا أن مد يده ليخرج ما لا تعلم يسراه ليجود به على الفتاة!
تمر لحظات ويكتمل العدد، وتبدأ السيارة في أن تنهل من معالم الطريق ونحن معها.
*   *   *
يا سيد يا بدوي
يا سيدنا الحسين
مدد يا أم هاشم
يا كحل العينين
*   *   *
رأيت في الطريق إلى (رشيد) مروراً بالـ(محمودية) مركز ثقافة ضخم له طابع جميل، يزينه من الجانب الأيمن فسيفساء تظهر من خلالها علامة الوجه الضاحك والوجه الباكي المميزة للمسرح، كما شد إنتباهي كشك صغير أزرق اللون مزين بخطوط حمراء متعرجة مكتوبٌ عليه "المحمودية.. عروس النيل!"


ما يميز الطرق الزراعية إنها تسمح بمرور سيارتين في اتجاهين مخالفين على جانبيّ الطريق، وبعكس الطرق العادية، فإذا أراد السائق أن يتخطى سيارة أبطأ منه فإنه لا يفكر مرتين قبل أن يميل عن يسارها ويتقدمها، إنما في هذه الحالة معنى أن تفكر في التخطي يعني أن تميل عن يسار اليسارة وتقابل السيارات القادمة نحوك لبرهة من الزمن قبل أن تنحرف -في آخر لحظة- لحارتك الأصلية. في تلك اللحظات كنت أشعر إننا على وشك الإصطدام وأضم كتفي الأيسر –كرد فعل طبيعي- تلافياً للصدمة متمنياً أن يقوم السائق بالمثل، إلا أن السائق لا يفعل ولا الآخر يصدمني!
ونكمل طريقنا بسلام...
*   *   *
مولانا الرفاعي
يا طب الأفاعي
يا سيدي إبراهيم يا دسوقي
أنتم فين؟!!
*   *   *
أدركنا (رشيد) وقبل الخوض في تفاصيل لا بد من التنويه على بعض المصطلحات.
أولاً النيل هنا يسمى بالـ(بحر) بينما يسمى البحر بالـ(مالح).


وصلنا شارع (السكة) الذي امتد بنا حتى رقعة مائية لم نعي إن كانت بحر أم مالح، اقتربنا فوجدنا لافتة كتب عليها "مشروع المقاولون العرب لتطوير كورنيش النيل" إذاً فهو البحر!



بدأنا بتصوير جامع لم ندرك ساعتها إنه يتبع الأسلوب الرئيسي في بناء البيوت القديمة المميز لمدينة (رشيد)، ثم شرعنا في تصوير البحر (النيل) والسماء وخط الأفق الذي يجمع ما بين درجتين من الأزرق غاية في الغرابة والإنسجام، فالأزرق في (رشيد) يختلف عن الأزرق في أي مدينة، وكأن الله قد حباها بأزرق يتكلم، فقد كان أجمل وأعمق وأصفى بشكل لا مبرر له!


الجوامع الجديدة في المنطقة تمتاز بوجود قبة واحدة تظهر في منتصف السطح، كما لاحظنا وجود أكثر من جامع يبرز منه حضن المحراب في الدور الثاني، وإن دخلته أدركت أنه منطقي وإن كان غير معتاد!


فكَّرنا أن نزور –أول ما نزور- متحف (رشيد) وكان لنا أن نسأل عنه إلا إننا أتينا بفكرة وضعناها معنا في الحقائب قبل وضع زجاجة المياه، ألا وهي أن أهل (رشيد) معروفون بالغدر! أمعنَّا الانتباه، إن أشاروا يميناً رحلنا يساراً، وإن وجهونا يساراً اتجهنا يميناً، إلا أن الطريقة لم تفلح، ففي النهاية، لقد دلونا على الطريق الصحيح للمتحف.


هو مكون من أربعة أدوار، مبني من طوب أبيض وبني اللون، يزينه من الخارج وجود مشرفيات ومشربيات مصنوعة من خشب الخرط وهو ما يسمى خطأ أرابيسك، إذ أن الأرابيسك هو زخارف نباتية متداخلة فقط لا غير، اللهم إلاالمسلسلات التي تقدم المعلومات الخاطئة، أما المشرفيات فهي ما تُفهم من الاسم أي ما يشرف منها الشخص، والمشربيات هو مكان وضع قلالي الشرب، وهو يبرز عن المشرفية لسهولة وضع القلالي.


المتحف كان بيت للجنرال الفرنسي (مينو) الذي أسلَم وتزوج إحدى بنات (رشيد)، ثم تحول بيته لمتحف فيما بعد، وقد كان جميلاً من الداخل بكل الوثائق والمخطوطات القديمة وما يحتويه في الدور الثاني من أثاث، وملابس ومعدات حربية، ورسومات للمقاومة الشعبية، وبعض أعلام التاريخ أمثال (محمد علي)، وقد كان ضوء الشمس يمر من خلال زجاج أصفر يضفي على البيت راحة تأنس لها النفس فتستكين.


في النهاية خرجنا وقررنا الإتجاه ناحية منطقة (الجسر) حيث قلعة قايتباي مكان إكتشاف حجر (رشيد).
*   *   *
بأنادي عليكم
يا أهل الطريقة
وجوايا شوق
للغزل وللحقيقة
*   *   *
مر من أمامنا مايكروباص فسألناه "الجسر؟!!" فأجابنا راكبٌ بكلمات غير مفهومة فلم نعره إهتمام، إلا إنه أتانا بعد بضعة دقائق، ليرشدنا عن موقَف مايكروباصات، ووقف معنا حتى ركبنا، وانتظرنا حتى تحركنا!


طبقاً للمعاملة التي تلقيناها من أهل البلد حتى الآن بدأنا في رمي ما يثقل كاهلنا من أفكار مسبقة عن أهل البلد، وبدأ إطمئنان مريح يتسلل إلى قلوبنا.


وصلنا لمنطقة (الجسر)، وسيرنا في شارع ضيق حتى وصلنا للقلعة. كانت جميلة وإن كانت قصيرة نسبياً، يتوسطها جامع ذو طابع عثماني بمأذنته التي تشبه قلم الرصاص، ويحيط به من جوانبه خنادق كثيرة في سور القلعة.


صعدنا أعلى السور وشاهدنا (رشيد) على إتساعها، ومنطقة (الجسر)، والمنطقة الصناعية واليَمة الأخرى من المدينة، والمنازل التي تتوسط الماء التي لا يمكن الوصول إليها إلا عبر مراكب الصيادين، فظننا إنها بيوتهم، أيضاً رأينا مكاناً لصناعة السفن، فيها تقف السفينة عارية في رحم السماء، لم يتكون منها سوى عظمها الذي يشبه القفص الصدري، منتظرة أن يتم كساؤها باللحم والجلد قبل أن تدب فيها الحياة وتبحر مع هواء قوي كان يداعب وجوهنا بعنفٍ مستحب.


رأينا حياة الصيادين ورأينا حياة البشر في البيوت المحيطة بنا، رأينا جمال الحياة البسيطة التي تفرز فتاة كالتي وجهت لنا الحديث في آخر الزيارة
-      أنتم بتصوروا إيه؟!
-      إحنا بنصور القلعة عشان جميلة
-      أنتم من إسكندرية؟
-      لأ،إحنا من القاهرة
-      همممم.. طيب ما تصوروا دي، كل الأجانب لما بيجوا بيصوروها!
نظرنا فوجدنا حجر الأساس يختبيء على الحائط المسطح ولا نراه! صورناه وشكرناها مبتسمين وابتعدنا وهي تتابعنا حتى ألقينا كل ما نحمله من أثقال وبدأنا استبداله بما هو حقيقي وجميل.


كانت الخطوة القادمة زيارة ملتقى البحر مع المالح وهو ليس ببعيد.
*   *   *
الله حي
الله حي
وسّع سكة يمر الضَي
شيخنا العاشق
جاي وراشق سهمه
وماشي حِدَي بِدَي
الله حي
الله حي
وسع سكة يمر الضَي
*   *   *
توجهنا بحسب تعليمات حارس القلعة، وركبنا (توك توك) حتى نصل لنقطة حرس الحدود، الغريب في الـ(توك توك) إنه كان يحتوي على عدد من المرايا يشبه تلك الموضوعة على زجاج التاكسي في بداية فيلم (678)، أيضاً لا يخلو (توك توك) في المدينة من شاشة عرض صغيرة موضوعة على يسار السائق يسلي بها الزبائن إن وجدوا، أو يسلي بها نفسه أثناء الطريق، على أساس أن الـ(توك توك) يعرف طريقة بنفسه!


وصلنا لمنطقة حرس الحدود، وسألنا السائق عن أمان المنطقة من عدمه فطمأنّا. اقتربنا من كشك الحراسة وطلبنا إذن المرور فحصلنا عليه، وسألنا عن مكان الملتقى إلا إن الحارس لم ينفعنا بشيء، فقررنا البحث عنه بأنفسنا إلا أن رائحة البحر في الأنوف تخترقها، ونسيمه في خصلات الشعر يقتلعها جذباً إليه، ورؤيته على مرمى الحجر تصدمنا وكأننا لم نلحظه، فروادتنا نفوسنا بنزوله، تناقشنا وكان ما كان!


خلعنا عنّا ملابسنا، اللهم إلا الداخلية منها، ونزلنا إلى موجات صغيرة تستقبلنا بلطف، وبرودة ترحب بنا بإنتعاش، وصخور تمزح معنا، فاحتضناهم ما بين عوم واسترخاء، تاركين مقتنياتنا على مسافة قريبة، متعجبين من إمكانية إنحراف هدف زيارة معالم مدينة ليزيد عليه الغوص في بحرها بدون أي إستعدادات!


قضينا من الوقت ما يسمح لنا به جدولنا عوضاً عن رؤية الملتقى، ثم خرجنا، استخدمنا المعاطف كمناشف، ثم غيرنا ملابسنا، وارتدينا الجافة مرة أخرى، إلا أن المشكلة –على الأقل بالنسبة لي- كانت في التخلص من الرمال العالقة في قدمي إستعداداً لإرتداء الشرابات.


خرجنا واتجهنا لأقرب طريق عام مروراً ببقعة من الماء الضحل خلع فيه (أحمد) حذاءه مرة أخرى وشجعني على المثل، على أن نمر بها دون الدوران حولها، وطبعاً تكررت مأساة الشراب، وإن كانت أسوأ بدون صخور أستند عليها فكنت أفقد توازني بشكل مضحك.


خرجنا على طريق واستقلينا (توك توك) حتى منطقة الجسر حيث القلعة مرة أخرى، ثم مايكروباص حتى نادي (رشيد) تمهيداً لزيارة جامع (أبو النظر) الشهير بـ(أبو مندور).
*   *   *
أنا عشقت سلمى
وغانم غواها
وأنا لما بأعشق
ما بأرجعش أتوب
*   *   *
رأيته من بعيد فتهللت، كنت أراه في صور هي من عوامل جذبي لمدينة (رشيد)، إلا إني لم أعتقد إني سأشاهده ظناً مني إنه على اليَمة الأخرى من البحر.


اقتربنا فشعرت بطاقة تجتاح المكان يضفي عليها شكل الأشجار هيبةً، ولمة الخلق جذباً، وإضاءة الغروب سحراً. كانت واجهته تتبع الأسلوب التقليدي لبناء البيوت القديمة الذي لم نكن ندركه بعد، دخلت فرأيته متواضعاً تملأه الإطارات الزجاجية مترامية على الحوائط تخفيها بشكل مبتذل، وضريح صغير في غرفة جانبية، يبدو من شكل الداخل إليه وطريقة تشفعه إلى أهمية (أبو النظر) بالنسبة لأهل (رشيد)؛ فهمت فيما بعد أن الرجل اشتهر بـ(أبو النظر) لعمق بصيرته في ملاحظة الأعداء عن بعد، وانحرف الاسم مع الوقت لـ(أبو مندور).
خرجنا واعتلينا تلة عالية وصورناه من أكثر من زاوية قبل أن نطلب من شخص كان يجلس مع زوجته وابنته أن يصورنا
-      لو سمحت ممكن تصورنا؟
-      أنتم عايزين تصورونا؟!! ماشي!
-      لأ حضرتك، أن بأقول لك إنك (أنتَ) اللي تصورنا
-      بس أنا مش بأفهم في الكاميرا
-      دوس هنا!
تعجبنا من قابلية الرجل في أن يُلتقَط له صورة هو وعائلته من أغراب، إلا إننا تقبلنا الفكرة مقارنةً بما شاهدناه من طباع أهل البلد، أيضاً راقت لي فكرة إنه أعلن عدم معرفته بإستخدام آلة التصوير بينما كان من الممكن أن يعطي لنا غيره دروس في التصوير عَ الواقف كده!
التقطنا بعدها أكثر من صورة للبحر ولـ(رشيد) ثم انتوينا الإتجاه نحو محطتنا التالية عند حمام (عزوز)،نزلنا، ركبنا التاكسي وأوصلنا بالقرب من الحمام، نزلنا ودخلنا الشارع، إلا إننا وجدنا أن الحمام مغلق ومهجور منذ سنون، فاخترقتُ شبابيكه بكاميرتي مستنداً بيدي على أعمدته الحديدية، فاستطعت أن ألتقط صور يظن من يراها أنه كان لي مطلق الحرية في التجول وإختيار زوايا تصوير تسمح بتخمين جمال سابق شابُه الإهمال فاختفي تحت طبقات التراب، إلا إنه يصرخ طالباً في الظهور، وقد ناله.


اقترب أحد الأهالي وسألنا عما نفعله –خصوصاً بطريقة التصوير المريبة التي اتخذناها- فأجبناه، متوقعين منه الإعتراض بأي شكل من الأشكال، إلا إنه شجعنا وأشار لنا على جوامع قريبة لها أهمية تاريخية وجب علينا تصويرها، ابتسمنا واتجهنا صوب الجوامع والتقطنا لها ما التقطنا من صور تحت متابعة عدد من الأطفال لنا؛ كانوا ينظرون ويبتسمون.. "دول عايزين صورة بقى!" أعلنها (أحمد) فذهب وانضم لهم، ابتسمت والتقط له الصورة، وأثناء خروجنا من الشارع، نظرت للصورة ثم للمكان وتذكرت معاملة الناس لنا، فشعرت إنه إن كان للحب رائحة تنشع في الهواء وتلهو مع جزيئاته، فقد استنشقتها لتوي.
*   *   *
وأنا اللي في هواكي
سبقت الميعاد
يا سلمى
يا عشق الولاد والبنات
وطلعت صورتِك
 في كل البلاد
*   *   *
جلسنا أنا و(أحمد) نرتاح على قهوة قريبة تطل على البحر (النيل) فيما كلمني أبي وسألني عما رأيناه، فوصفته، إلا إنه رجع وسألني عما إذا كنا رأينا البيوت القديمة لمدينة (رشيد)، فأجبت بالنفي معللاً ذاك لضيق الوقت، وظننت في النهاية إننا لن نرى البيوت وإنه لا مانع عندي، فأنا لم أرى صور لها فلم أفهم أهميتها!


سألنا عن موقف المايكروباصات فعرفنا إنه في شارع (سوق اسمك) ودخلناه، اشترينا بعض الشطائر من محل للفول والطعمية كزاد الطريق ثم انطلقنا، إلا إننا وجدنا أن البيوت القديمة هي من استقبلنا قبل الموقف فبدأنا تصويرها إكراماً منّا لبيوت سعت لأن نراها، وقد كانت جميلة يندمج فيها اللون الأسود مع الأحمر يجمع بينهما الأبيض بشكل متكرر ليضفي على الشكل النهائي مظهر مختلف لم أره من قبل، اللهم إلا في بعض جوامع المدينة لم أكن أعي تميزه ساعتها، وبالطبع ندمت إني كنت سأرحل دون أن أشاهد البيوت.
بطبيعة ظلام اليوم، احتجت مدة أطول لإلتقاط صورة صحيحة واضحة للبيوت، إلا إني كنت قلق من ظهور نور الكاميرا في شارع ضيق من حي شعبي، إلا أن الخلق كانوا ينظرون ثم يمرون مرور الكرام، اللهم إلا طفل اقترب منا لينصحنا أن نأتي مبكراً في اليوم التالي حتى نستطيع زيارتهم من الداخل؛ بعكس أهل (طنطا) الذين اعتبرونا جواسيس أثناء تصويرنا لأحد الآثر الموجودة في ميدان عام، حتى الخُضَري والفكهاني كانا متعاونين معنا إلى أقصى الحدود في تصوير آثار تمثل خلفيات لعربتهم "صور على مهلك يا بيه!" وكان ذاك غير متوقع بشكل عام إلا إننا تفهمناه خصوصاً بعد الإحتكاك بأهل المدينة، شكرناهم وتوكلنا صوب الموقف لتقابلنا مفجأة من نوع مختلف.

-      لا يا بيه، ماكروبازات دمنهور بتقفل بعد المغربية، لو عايز تروح دمنهور، تركب حاجة للمحمودية، وبعدين حاجة لدمنهور من هناك.. هو أنتَ عايز إيه من دمنهور؟!
-      أنا عايز أوصل هناك عشان أركب قطر للقاهرة
-      طيب عندك حل تاني، اركب ماكروباز للإسكندرية، مسافة تِلت ساعة ومن هناك خد قطر للقاهرة!
كلمنا أصدقائنا نسألهم عن أي معلومات تخص سعر تذكرة القشاش من (الإسكندرية) للـ(قاهرة)، ومن ثَم إن كان يتوافق هو وثمن المايكروباص مع ما في محفظتنا من سعة مادية أم لا، فسمعنا ما يقلق وما يطمئن، فاستعنا على الشقاء بالله وتوكلنا إلى (الإسكندرية)!
*   *   *
ألِم الخطايا
وأفوز بالعطية
وأسافر بحلمي
سعيد المطية
عزيز الخطاوي
ما يلويني شَيّ
*   *   *
نزلنا عند (كارفور) ثم استخدمنا مايكروباص آخر في الطريق لمحطة (مصر) حيث قام المايكروباص بحادث صغير إثر تصادم مايكروباص بطيء ببابنا الأمامي المفتوح، استدعى التأخر عشر دقائق فقط، وفي الطريق سمعت (أحمد) يضحك وهو يكرر "الناس اللي حواليك دول مروَحين بيتهم آخر الشارع مثلاً!" فداخله رجل مسِن مصصحاً له المعلومة "مروحين إيه يا ابني؟!! دي الناس دي بتخرج دلوقتي عشان يتمشوا عَ الكورنيش، انزل أنتَ كمان واتمشي الجو حلو، أنا نَفسي نازل أتمشى دلوقتي، الجو جميل، الجو رائع، الجو..." قاطعه (أحمد): "ما تسخنَّاش يا حج!"

نزلنا أمام المحطة فعلق (أحمد) على جمال المحطة ونحن نجري، وعلقت أنا على كشك التصوير الذاتي الذي تحول لكشك سجائر وحلوى ونحن نجري، سألنا عسكري عن شباك تذاكر القشاش المتجه للـ(إسكندرية) فنصحنا بالإسراع نحو قطار 30 لأن ميعاده بعد خمس دقائق، أكملنا جري وتوجهنا صوب رجل نتأكد منه عن المعلومة والإتجاه، إلا إنه فاجأنا بإشارة سريعة من يده على قطار 30 ونحن على مسافة منه دون أن نسأله، وقد كان مصيباً.

ركبنا القطار في الميعاد ونحن نفكر.. إن لم تتم الحادثة، لوصلنا مبكراً ولما اختبرنا ما اختبرناه للتو، وإن كنّا استمعنا لوسوسة الرجل –وقد كنّا على إستعداد- لأنتظرنا ساعة ونصف الساعة على الأقل قبل أن نستقل غيره، وإن توقفنا نمعن النظر في جمال المحطة أو في معاينة كشك التصوير لما لحقنا القطار، أيضاً لولا شفافية الرجل الذي أشار لنا على القطار دون أن نسأله، لما ركبنا في هذا التوقيت.. غريبة!

اخترنا مكان نجلس فيه، وانتظرنا (سَحَر) -يااااا يا سَحَر!!- أن تأتي، إلا إنها –بالطبع- في قطار آخر، وبالرغم من هذا لم يخل القطار من أحداث، فقد تقابلنا مع آلاتية وفِرَق موسيقية صغيرة ممن تحيي الأفراح في المحافظات بعنجهة المغني النجم، وتصرفات صبيه التي توحي بأن الرجل مخبر أكثر منه صبي مغني!
قابلنا أطفال تتبدل براءتهم بين إشعال سيجارة وإنهاءها، فتارة يتصرفون كالكبار من حيث طريقة التنفيث وإسناد الذراع الأيسر على الركبة مع الميل القوي للأمام أثناء كلام لا يخلو من غمز بالعين ليكمل الصورة، وما بين مزاح أطفال بكلماتهم وسبابهم الساذج المتبادل بعد إنتهاء السيجارة، فضحكنا وحزنّا في نفس الوقت.

اختبرت تجربة الإستلقاء على رف الحقائب العلوي ونظرت للسقف عن قرب، ثم استلقيت على حافة العربة الأخيرة أستشعر نسيم الليل البارد أنا و(أحمد)، وتابعت هروب القضبان الحديدية تحت قدمي في وضع أقرب للأرجوحة أنما أسرع وأخطر فقط!

في النهاية وصلنا القاهرة في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، خائري القوى، إنما محتفظين برباطة جأشنا، يتبعنا إحساس عام بالأمان والطمآنينة والسلام الداخلي.
نظرت مطولاً إلى لافتة القاهرة وشعرت بحنين، صورتها، ثم خرجنا لنواجه هواء الليل البارد وسط أصوات آلات التنبيه الخاصة بالسيارات البعيدة، وأضواء الإشارات، ووقع صوت أقدامنا العالي على أرضية الأسفلت...
*   *   *
كلمة بسيطة لأهل الحيّ
كل ما تمشي قَدَم عَ السكة
كل السكة ما تشبع ضَي
الله حي
فوت في السكة
تشوف الضَيّ
*   *   *

jeudi 12 avril 2012

حلوة يا بلدي (1) – طنطا..!!

*أنصح بتشغيل موسيقى أثناء قراءة المقطع الأول بالضغط هنا.*

*   *   *


دائماً ما يمثل لي معرفة الجديد
شغف
أقرب للعطش
ودائماً ما يراودني حلم إكتشاف المناطق المجهولة.
بدأت بالترحال في أحياء القاهرة الغير معلومة لي
حتى إني بدأت أفضل مناطق عن نظيرتها
مثلاً أنا أعشق جنوب القاهرة
وأفضله عن شمالها
إلا أن حلمي لم يتوقف عن التطلع
فراودني بالنزول في محطة قطار لا أعرفها أثناء مروري بها
لأختبر مغامرة
إلا إني وأدته
أو بمعنى أدق –وأقل قسوة- طلبت منه الإنتطار
وجعلت أتحدث عن شغفي مع من حولي
حتى نسيته
أو هكذا ظننت
حتى جأني صديقي (أحمد) يعرض عليّ أن نقوم بما هو مفيد وإيجابي
انتهزت الفرصة واقترحت عليه حلمي
خاصةً إني أعرف أن لكلامي ذاك عنده صدى
لكني لم أشدد على فكرة السفر
بل على فكرة إكتشاف المنطاق المحلية
وكان أول إقتراح منه طنطا
وأول رد مني هو موافق!!
*   *   *


توكلنا على الله ورتبنا أمورنا، اليوم والميعاد والمصاريف والأماكن والتوجهات، ما نحتاجه وما يزيد عن حاجتنا، ثم انطلقنا.


لم يأخذ الوقت أكثر من ساعة بالقطار القشاش، نزلنا وبدأنا تصوير محطة القطار التي كنت أراها تشبه معمار منطقة روكسي والكوربة، إلا إن (أحمد) نبهني إننا لم نأت لنلاحظ التشابهات وإنما لإيجاد الإختلافات "إحنا ما شقِّناش الوادي عشان تقول لي ده يشبه كذا وكذا، إحنا جايين عشان المختلف اللي ما يشبهش كذا وكذا!!"


أول ما بدأنا، جاءنا شرطي يستعرض علينا نفوذه ومنعنا من تصوير المحطة إلا إن ذلك لم يشفع له عندنا وأكملنا التصوير في الخفاء.


خرجنا من المحطة وتوجهنا لشارع (المديرية) ورأيت منطقة لها بواكي تشبه كثيراً بواكي شارع (كلوت بك) بميدان (رمسيس)، وأثناء التصوير فاجأنا رجل بسكاكين كبيرة يقف أمامي مبتسماً إستعداداً للتصوير ثم عدل عن رأيه " لا يا عم انا مش عاز شقاوة، لا تنزل عَ النت وتقولوا بلطجية!" إلا إننا أصرينا على تصويره لخفة ظله، والتقطنا صورة له مع الجمبري!!


المميز في الخلق هناك أن لهم نظام واحد في شرح الطرق، يجيب من لا يعرف أولاً، ثم يصحح له من يعرف، فيكرر من وراءه من لايعرف، وبذلك تستطيع أن تستخلص المعلومة على ثلاث مراحل!


أيضاً يميزهم إنهم إما مرتابون إما متقبلون، مثلاً قابْلنا صاحب مخزن لمعسل السلوم بحفاوة شديدة صدَّق معها إننا نلتقط الصور من أجل مشروعي دراسي، بحكم دراستنا في مجال السياحة، بينما اعتبرنا آخر جواسيس!




شرعنا نصور مسرح (طنطا) وما أن هممنا بالرحيل حتى فاجأنا شخصٌ بالسؤال عن هويتنا، ولم يقبل بالكذبة المعهودة دون إبراز تحقيق الشخصية.
- أنتم بتعملوا إيه هنا؟ أنتم مين أذَن لكم تصوروا؟ مش في ناس تستأذنوا منها؟!! أنتم مين وبتعملوا إيه؟
- إيه يا عم بُراحة.. إحنا يا عم بنصور آثر مهم، فيها إيه بقى؟
- لازم تستأذنوا الأول من اللي جوا، ثم أنتم مين؟!! أنتم شكلكم جواسيس!
ما أنتم اللي خربتم البلد.. هاتوا بطايقكم!
- خد يا عم أهه.
- ممممم.. بس برضه كان لازم يبقى فيه إحترام.
- أنتَ بقى مين يا حلاوة أنتَ؟!!
أدار الرجل لنا ظهره فتطاير معه جلبابه الرمادي المتسخ، حك خده الغير حليق ورفع رأسه ذو الزعبوط البني الممزق وقال وسط نبرات محشرجة مؤذية للسامع
- أنا بقى رئيس جَمهورية المنطشقة دي!!


أكملنا طريقنا نحو شارع (البورصة) حيث مبنى البورصة القديمة غير متأكدين من مكانها أو من وجودها حتى الآن أصلاً، فسألنا على بقايا المبنى أو –على الأقل- موقعه
- فين البورصة لو سمحت؟
- أنتَ دلوقتي في شارع البورصة.
- أشكرك، لكن فين البورصة نفسها
- ما أنتَ عندك شارع البورصة بحاله أهه
- أشكرك، لكن فين البورصة نفسها، المبنى يعني
- آه.. بص، أنتَ دلوقتي شارع البورصة
- أشكرك!!
*   *   *

اتجهنا بعدها نحو جامع (السيد البدوي) شِالله يا سيد يا بدوي!
كان جميلاً من الخارج، خصوصاً بعد ترميمه –أو هكذا زعمت حتى رأيت صورة له قبل ترميمه- أعجبت بقببه العالية ومآذنه المليئة بالزخارف الإسلامية التي دائماً ما تجد مكاناً لها في قلبي، والشرَّافات المزخرفة والأقواس الفارسية للمدخل التي تستند على عواميد رخامية رفيعة.





دخلنا فوجدنا مقام (سيدي مجاهد) عن يميننا، دخلته أنا و(أحمد) فشعرت بحاجة لرشم الصليب كعادة مني أثناء دخولي الأماكن الدينية، إلا إني اكتفيت بالضحك في سري!


دخلنا مقام (سيدي أحمد البدوي) فلاحظنا وجود لافته تمنع التصوير، فتجاهلناها بشكل كنّا فيه على إستعداد لتصويرها هي نفسها إن كانت جميلة!


كانت قبب الجامع من الداخل تمتاز بزخارف رائعة بمقرنصاتها ونوافذها المفرغة، كذا اضفى الخط العربي على الجمال جمال، كما يتوسط الجامع تنور بديع تحت سقف من الزخارف الهندسية المتلاحمة بينما تدور حماماتان في فلك الجامع –لتضفي طابع فوق الطابع وطعم فوق الطعم- بين ثنايا البواكي الموازية لحائط القبلة عامةً، وعامودية على حائط القبلة في المربع الذي يتوسط الجامع خاصةً، يربط بينهم جميعاً دعامات خشبية يتدلى في منتصفها مشكاوات قديمة بجانب مراوح وطوارد ناموس حديثة لم تقلل من جمال المكان.




يدخل النور للمكان من خلال زجاج معشق مزين بزخارف نباتية متداخلة، منه من اتخذ شكل نافذة مستطيلة، ومنه من اتخذ شكل النوافذ الثلاثية ويسمى (شِند) أو (قنديلية بسيطة) ليضيء المكان بوهج يمنّ عليه برهبة!
*   *   *

بعد أن خرجنا من الجامع نظرنا في جدول الرحلة، فإذ بالمحطة القادمة (سبيل محمد علي) بشارع (الجلاء)، فبدأنا بالسؤال عنه
-      لو سمحت سبيل محمد علي فين؟
-      مش عارف الصراحة، يا حسن!
-      أيون يا بهوات
-      سبيل محمد علي لو سمحت
-      السبيل حضرتك تمشي على طول كده تلاقيه، مش متأكد يمين ولّا شمال، روح هناك واسأل!
ينظر زميله له ثم يقول
-      سمير مين ده يا حسن؟!!
-      سبييييييل
فيتدخل شخصٌ بالحوار
-      هو سمير ده بيشتغل إيه؟!!
-      إحنا بنقول سبيل
-      أيوه يعني بيشتغل إيه سمير ده؟!!
تركناه ومشينا فسمعناه
-      ده بيشتغل إنه كل ما يعطش يشرب.. هأأأأأو!!


اتجهنا بعدها حيث جامعة (طنطا) بشارع (البحر)، وهو شارع رئيسي هناك، وفي الطريق إليه كان هواء البحر يشتد محملاً برائحته الطيبه وجَوه الرطب، فاستبشرنا خيراً وتوكلنا على الله وقررنا سؤال أحد المارة عن مكان البحر، إلا إن جاءنا هاتف يزعم أن البحر لا وجود له، وأنه لا يتعدى التسمية –أو على الأقل في عصرنا- فرجعنا عن قرارنا وبدأنا نفكر في شكل الإهانات التي سنتلقاها إذا صدُق الهاتف. إذا سألنا فتاة تظن إنها معاكسة، تخيلوا معي الآتي في نطاق القاهرة
-      لو سمحتِ يا آنسة، ده شارع بيروت؟!!
-      أيوه مضبوط ده شارع بيروت
-      طب لو سمحتِ من هنا لبيروت كام كيلو؟!!
عدلنا –بالطبع- عن الفكرة وقررنا سؤال شاب في مثل سننا تفادياً لفكرة المعاكسة، إلا إن إنتابنا الحذر من شكل الإهانة التي سنستسقطها على رؤسنا ورؤوس أهلنا، تخيلوا معي الآتي في نطاق نعرفه
-      لو سمحت يا كابتن، إحنا في منطقة إيه؟
-      إحنا في الزمالك اساحبي، أنتَ عايز فين؟
-      أمال منطقة الأهلي فين؟!!
-      الأهلي دي عن حتة اسمها المواسير لا مؤاخذة!!
رجعنا –بالطبع- عن رأينا وقررنا سؤال طفل بريء صغير لا يحمل الضغينة لأحد ولا يملك روح التهكم والسخرية
-      اروحي، هو ده شارع البحر؟!!
-      أيوه يا عمو، ده شارع البحر
-      فين بقى البحر؟!!
سكت الولد هنيهة ليهضم ما قلناه للتو ثم ابتسم وقال
-      بص، هو البحر كان ماشي.. همَ وقفوه وعملوا الشارع، هأأأأأأو!!
*   *   *

بعد أن اكتشفنا أنه لا هنالك بحر ولا يحزنون، قررنا التوجه نحو محطة القطار، واتخذنا في طريق عودتنا طريق مختلف عن ذاك الذي اتخذناه أثناء ذهابنا للجامعة. صادفتنا منطقة أكثر تحضراً يبدو عليها إنها تخص طبقة إجتماعية أعلى من سابقتها في الطريق الآخر، إلا إنها في النهاية هدتنا لمنطقة عشوائية بالقرب من الطريق الزراعي.


سألنا شخصٍ عن مكان المحطة إلا إنه دلنا على محطة المَيكروباصات، ربما لأنه لم يستشف قصدنا بمحطة القطارات لبُعد المسافة، إلا إننا سألنا غيره بصورة أوضح
-      لو سمحت محطة القطر منين؟!!
-      هي طوالي كده في شمال؛ والعربيات دي بتروح، تعالوا اركبوا!
-      شكراً أوي إحنا حابّين نتمشى
-      وتتمشوا ليه؟!! العربيات أهي –كاد أن يمسك ذراع (أحمد)- ما تمشيش يا عم اركب
-      شكراً مش عايزين!
-      بس تعالى بس.. هو أنتم مش معاكم فلوس؟!! طب خد طيب واركب!
-      شكراً إحنا معانا الحمد لله، بس إحنا حابين نمشي، هي كده على طول في شمال يعني؟!!
-      آه!
-      شكراً
-      طب أقول لكم على حاجة؟!!
-      أيوه!!
-      ماتركبوا!!!
*   *   *

وصلنا للمحطة وبحثنا عما نأكله، ثم ألقينا نظرة أخيرة على جامع (السيد البدوي) تحت أشعة شمس الأصيل.. وشدَينا الرحال.

*   *   *