samedi 26 mars 2011

ارتباك..!!

رَن جرَس البَابِ

فَتحتُه

لَم أكُن أعرِفُه مِن قَبل

لَكنِي فَطِنتُ لِشَخصِهِ

حيَّاني ودَخَل


كُنتُ قَد قررتُ ارتِداء ملابِس البَيت لمُقابلتُه

فوَجدتُه فِي كامِل هِندامُه

وَقور

بَسيط


جَلسَ

فجَلستُ


نظرَ إلَى الحائِط

فنَظرتُ إلَى الأرضِ

وفِي النِهايَة تلاقَت أعيُونُنا

وجَدتُه أسمَر البَشرةِ

يُحيطُ شَعرُه الأشيَبِ بصَلعتَهُ

لَه شاربٌ كَثٌ، وعُيونٌ ضَيقةٌ

ويُزيد كِرشَهُ مِن مَظهَر الفلاحِ المِصريّ الأصيلِ

لوَهلةٌ تَرأَى لِي عَلاء الأسوَانِي

ثُمَ ترَاجَع لِلفلاح العَتيد

فَسألتَهُ أتَشرَب شَاي؟


أحضَر أبِي طَقطٌوقَة السجَائِر، وجَلس بِجانبِه

يتسَامرون، ويَحكُون ذِكريَات الطُفولةِ

فأسمَع عَن لَهُو أبِي فِي شَبابهٌ

واستِكشافَاتِهُم لِلتِرعة المَحفُورة

وتجَاوُزهُم لِحدُودِ مَزرعَة آرثَر بلانتْ

صَديق الإمَام مُحَمد عَبدُه


يَنظُر لِي ويَقُول

هَات مَا عِندَك

أدخُل غُرفَتي خالِي اليدَين

وأخرُج بِقصَصي علَى استِحيَاء


يَأخُذهَا

فأجلِس أمَامُه

يُخرِج نظَّارة القِراءةِ التِي تُثير الرَهبةَ فِي نَفسِي

يُشعلُ سِيجارةَ، ثُم يطلُبُ قَلماً

أحضِره، وأجلِس أُراقِبُه

مُدَّعياً عَدم إهتِمامِي

يخطُ أوَل خَطَ قَلمٍ

فيَخفقُ قَلبِي

ويتسَارَع تَنفُّسي

أغدُو لا أسمَع شَيئاً غَير دَقاتَ قَلبِي

وصَوتَ القَلمِ علَى ورَقي

يَفتَح فَمُه إستِعدَاداً لِلكَلامِ

فيتوَقفُ صَوتُ قَلبِي إستِعدَاداً لِلسماعِ

فأجِدُه فَقَط يَستَنشِق الهوَاءِ

فأسمَحُ لِقلبِي بالخفَقانِ مِن جَديدِ


تَتوارَى وَرقةٌ خَلف وَرقةٌ

وتتَسابَق الخُطوطُ علَى الوَرقِ

حتَى تَنتَهي القِصةُ

ويَكتَفي القَلمُ


فَيقِفُ

يُناوِلَني الورقِ

يبْتسمُ

ويَرحلُ...


samedi 19 mars 2011

في بيتُنا فأر..!!

في الخطاب الأخير للدكتور (محمد إبراهيم علي) الذي أكد فيه على تفكيره في التنحي عن منصبه لمن يستحقه، وتأكيده على عدم ترشح نجله للرئاسة القادمة للقسم، كما أكد سيادته على إنتمائه للقسم، بتعليله إنه وُلد في إرشاد، وسيظل فيه حتى أخر لفظة نفس، أيضاً دعى سيادته لعقد مؤتمر في مدرج رأفت عبد الحميد في تمام الساعة العاشرة، وقد كان.


اجتمع الأستاذ السيد الدكتور رئيس القسم (محمد إبراهيم علي) بطلبة قسم إرشاد بكل أطيافه ليؤكدوا على الوحدة الوطنية بين أقطاب القسم الثلاث، إرشاد عربي، وإنجليزي، وفرنسي، وبدأوا في عرض مطالبهم في شكل حضاري، فتمت محاورتهم بطريقة موضوعية، مع التأكيد على عدم وجود فساد في الجامعة، وعدم ذكر أسماء، وعدم التنفس، وعدم عدم التنفس، وكله لضمان النظام في القاعة تحت إشراف الأستاذ السيد الوكيل.


عندما بدأت الأيدي في الإرتفاع، وتوالي المطالبات وطلبات الإحاطة، حتى إكتشفنا أن مشاكلنا أبسط مما نرى، وأبسط من أن تذكر وأبسط من أن تُحِل.


تقدم مجموعة من الطلبة وأحاطوا سيادة الأستاذ الوكيل علماً بتغيب أحد الدكاترة الأفاضل -الذي يكنون له كل التقدير والإحترام- طوال العام... وكان رد الوكيل أبسط مما نتخيل، بل أبسط مما تخيل الدكتور المتغيب شخصياً...يا سلام، بسيطة هنشوف الموضوع ده، فانهال التصفيق، الذي أخذ بشكل عام أكثر من ثلثيّ الجلسة موزَع بين حلٍ وآخر.


تطرقنا أيضاً إلى مشكلة سوء معاملة بعض الدكاترة للطلاب، غير التحرش بالبعض، إما بالنظرات أو بالأقوال، هنا قام الأستاذ السيد الدكتور الفاضل رئيس القسم (محمد إبراهيم علي) بتقديم الوعود والضمانات للحؤول دون تكرار مثل هذه الفواجع.


تبادر على ذهن أحد الطلاب تفشي الفساد بين جميع مؤسسات الدولة، ورأى أنه من الواجب، في ظل بداية صفحة جديدة، الإعتراف بمساويء إدارة القسم فجاء الرد واضحاً جلياً

الفساد في إدارتنا متمثل في الدروس الخصوصية


هنا تجرأ إحدانا وعرض مشكلة سوء الأمكنة المخصصة للدراسة، في الوقت الذي تستنكر فيه الإدارة المبيت في بيوت الطلبة في السفريات الكبرى، وذَكَر، على سبيل المثال وليس الحصر، دراسته في سنه أولى مع زميل مختلف، وعلى إثره، تجمعت الدفعة في جانب واحد فترة المحاضرة، في حين احتل فأر الجانب الآخر، ومع تحركه نتحرك. هنا نشأت قضية الفأر، فطفقنا نتحدث عن الفأر وإمكانية التخلص من الفأر، وتأثير الفأر على الفرد والجماعة، وتباين النواحي الإيجابة والسلبية في دور الفأر بخصوص عملية التركيز، وشعارت مثل القسم يريد الفأر ، وما إلى ذلك، ولِـبَت النظر في شكوى الفأر تم طرح سؤال مصيري

مش في فيران في بيوتكم برضه؟؟؟


انحل المجلس ولسان حال الحاضرين يردد

الطلاب والدكاترة ايد واحدة


رأيتُ الله..!!


ملحوظة: هذه المقالة منقولة عن إسبوعياتي الشخصية بتاريخ 16/2/2011، مع بعض الزيادات الطفيفة جداً إما للتوضيح إما للتنقيح

بعد نجاح الثورة، ظهرت حملة تدعو إلى تنظيف الشوارع، و إذ إني لم أجد من يساندني في تنظيف حيي، قررت البدء ببيئتي الصغيرة، غرفتي.

رتبت مكتبي منذ يومين، و اليوم رتبت الضلفة اليسرى من الدولاب، التي أجلت ترتيبها سنوات، فوجدت ذكريات قديمة تعود إلى سن العاشرة إن لم يكن أقل، تخلصت من بعضها على سبيل إعطاء المجال لذكريات جديدة لتحل محلها، و لكن بعضها إعتبرته عنصر في تركيب شخصيتي الحالية، فقررت عدم التخلي عنهم، لأنهم يمثلون جزءاً مني.

على سبيل الأمثلة، وجدت كراسة هي عبارة عن أسبوعيات فترة معسكر ( أربعة أيام). لم أكن أعرف إني حاولت من قبل كتابة أسبوعياتي في كراسة، حتى و إن لم أعطها الإهتمام الكافي، إلا إني أوجدتها. فتحتها فوجدت بين طيات صفحاتها أندرو الطفل، وقرأت

اليوم الأول
أنا ببص على الكمبيوتر كتير، بس حاجة زي دي مضايقاني، لأنه بيمنعني عن ممارسة ديني بطريقة سليمة، وبيخليني أروح الكنيسة من غير نفس، ومحبش أخرج عشان أفضل قاعد في البيت قدام الكمبيوتر، وهذا يقلل من طبيعة تعاملي مع الناس من حيث كثرة قعودي قدام الكمبيوتر، وعدم تعاملي مع الناس بكثرة ولَّد فيّ شخصية ضعيفة تخاف التعامل مع الناس و لا تتأقلم مع الناس بصورة سريعة وظريفة.
(بدون أي زيادات لا للتوضيح أو للتنقيح)

هنا أدركت صحة المقولة التي حفظتها من كثرة تردادها على مسامعي في الصغر " انت يا أندرو أكبر من سنك"، العجيب إني منذ أربع سنوات في إجتماع  لنشاط أغصان الكرمة مع زياد، أعلنت  عدم إقتناعي بها إذ إنها تترد على مسامع الكثير من أصدقائي، لو أن الجميع أكبر من سنهم، فإننا جميعاً في نفس السن، إذاً فهي غير صحيحة، وكنت أسمعها على سبيل المجاملة. اليوم إكتشفت أن تفكيري في سن الثانية عشر، كان يفوق بالفعل سني بمراحل، أولاً كانت كتاباتي تضم الفصحى، ثانياً كانت تنم عن تفكير تحليلي من الطراز الأول.

وقتها شعرت  بشعورين مختلفين، الأول كان سلبي، إنني كنت أعمق في الصغر، و إني بمثل هذا المقياس، مستوى تفكيري في سن الواحد والعشرون، بالرغم من جودته حسب وصف الناس له، إلا إنه ليس على نفس المقياس أو التطاول على العمر، كما حدث لي في الصغر عندما كنت بيج فيش. (من رأى الفيلم سيفهم قصدي)، الشعور الآخر كان إمتنان، لأني عرفت أن الله أعطاني وزنة وموهبة منذ الصغر، عقل تحليلي، و أسلوب كتابة، و عليّ أن أنميهم، و أطور تفكيري ومداه.

شعرت بسعادة لمعرفتي، و رؤيتي، و وعيي للمسة الله في حياتي، كما لاحظت أيضاً إني تخليت عنها، فقد رفضتها لأنها تجاور صمتي الطويل للتفكير و التحليل، و هو ما كنت أكرهه في شخصيتي أنذاك، لكني أعي مدى أهمية ذلك الآن، و مدى صعوبة ذلك على بعض الأشخاص، أنا عندي ميزة، أنا أستطيع أن أجلس في هدوء و سكون لأفكر و أحلل الأمور و أصيغها بشكلٍ جميلٍ، و أنا  الذي إعتبرته،بشكل سلبي، إنطواء.

الطريف أيضاً إني وجدت تعريفي لنفسي، و قد يكون تعريفي لدوري في فريقٍ ما لكنه تعريف، و كان (محرر/رسام)...طبعاً فوجئت من التعريف، بجانب كتابة كلمة الرسم، بكل جرأة، في خانة الهوايات في أوراقٍ أخرى.  أيضاً وجدت ورقة مدون عليها حُلمي في نفس العمر "لما أكبر عايز أبقى مهندس و أخترع عربية بتمشي و  بتطير بالطاقة الشمسية"

لقد كانت أحلامي أنذاك عالية و كانت تطير و أطير معها، في حين أن أحلامي الآن أبسط و تنحسر في العيشة المستورة .يجب أن أبحث عن ذاك الطفل بداخلي، فتذكرت و نظرت إلى فوق حيث تلك المقولة للكاتب الألماني أيرش كيستنر مكتوبة على سقف غرفتي
يولد الناس ثم يكبرون
و لكن فقط من يكبر و يظل بداخله الطفل
هو من يمكن أن نطلق عليه
إنسان

إقتنعت بهذه المقولة أكثر من ذي قبل
لأنه عندما إكتشفت الطفل بداخلي
رأيتُ الله
جل ما عليّ
هو مساعدة هذا الطفل على الخروج


بلاك..!!


يتراود إلى ذهني خلال الأيام القليلة الماضية لقطة من الفيلم الهندي (بلاك)، و هو فيلم مقتبس عن حياة الأديبة الأمريكية المعجزة هيلين كيلر.

في اللقطة تظهر فتاة تضع يدها على فم مغنية و تترجم ما تفهمه من حركة شفاهها إلى رموز بيدها تعبر عن كلمات الأغنية بحماسة بالغة، هنا يبدي أحدهم إعجابه بقدراتها و يصرح به لمُعلمها واصفاً الموقف بكلمةمستحيل، ينظر الرجل إليه بتمعن
و ينطق كلماته واضحةٌ قويةٌ ، تنفذ معانيها إلى الروح
المستحيل كلمة لم أُعلمها لها
فعندما نزعم إن هذه الفتاة لا تعرف كلمة مستحيل، فهي حقيقة واقعة، و ليست من باب البلاغة في الإشارة إلى أحدهم

تتسارع تلك اللقطات إلى عقلي مراراً على مدار اليوم، و في كل مرة تظهر بشكلٍ أوضح عن سابقتها، لتُجلي حقيقة جهل شبابنا بهذه الكلمة أيضاً.

لقد أثبت نظام التعليم المصري عدم فعاليته طوال السنوات الماضية، فعودنا على حشر المعلومات، و ما أن تمر فترة الإمتحانات حتى تُجلى المعلومات من أدمغتنا، فننسى بعض  الكلمات، حاولنا مراراً تَعلُمها، و ظننا إننا حفظناها، و ما أن نُوضع في موضع إختبار حتى ننساها و نتلعثم، فنختار كلمات أخرى كبديل في بعض الأحيان، أيضاً  فشلَ حين أسقط بعض المرادفات من مناهجنا، التي تفرضها علينا الطبيعة المحدودة للبشر.

نعم، فشل التعليم المصري حين إختار الحشو منهجاً، فحفظنا كلمة السلبية دون وجود أدنى صدى لها في آذاننا، و ما أن وضِعنا في موضع إختبار حتى نسيناها، و البعض تلعثم، فإختار كلمة الإيجابية عوضاً عنها، حتى يداري فشله في الإستذكار، نعم فشل التعليم المصري حين نسى، بجهلٍ أو بتقصيرٍ، أن يعلمنا كلمات مثلالمستحيل، فكبرنا دون أن نعرفها، و لم تستطع أدمغتنا ذات التعليم الفاسد و الكلمات المنقوصة إستيعابها.

شاهدنا خلال الأيام السابقة، مئات الآلاف، بل ملايين هيلين كيلر، صمٌ و بكمٌ و عميانٌ عن الحدود التي رسمها الإنسان لنفسه، رأينا صوت الحرية ينساب إلى أذن الأصم، شاهدنا الهتاف يخرج من فمِ الأبكم، و سمعنا النظرة المتطلعة في عين الأعمى.

في الفترة القليلة الماضية طالعنا المستحيل، و التنحي الوحيد الذي رأيته هو تنحي هذه الكلمة عن منصبها، مُسقطة معها كلمة السلبية لتبدلها في عقولنا بكلمة الإيجابية... و هذا هو ما رأيته 


الله رئيساً..!!


في مكانٍ بعيدٍ، في خلية من خلايا مخي الأثير، اجتمعت شخصيات هذه الرواية وأسسوا دولة، وعلى إثرها تجمعت وتشابكت أحداث الرواية، مع العلم أن معظم  الشخصيات من المختلّين عقلياً، يغيرون من إنتمائتهم، وأخلاقهم، وقناعتهم بالأشياء، بل وحتى موقع الدولة في عقلي النفيس، يغيروه من خليةٍ لأخرى، وكتبعات لذلك تتغير التركيبة المنطقية، ولذلك لا أنصح العقلاء بقراءتها وإنما هؤلاء من ذوي البرج الطاقق.

خرجت مجموعة من الأفكار، تاركة خليتها الأم وموطنها، كإعتراض وتصريح منها على سوء طريقة تفكيري وإختلالي العقلي، الذي لا يسمح لها بالمكوث في مكانٍ واحدٍ لأكثر من ثلاثة ثوانٍ، حتى أحركها وأنقلها وأقلب رأسها على عقبها. سمعتْ فكرة عن قريبتها تلك التي تسللت بين خلايا عقلي واستقرت، وإنها في أتم صحة وفي خير حال، فقررت في ليلة مشمسة، نعم، ليلة مشمسة، ألم أحكِ لكم عن إختلال عقلي؟ المهم إنها قررت جمع إحتياجاتها في بُقجة والهروب عن هذه الخلية إلى خليةٍ أفضل، فخرجت وأراحت البُقجة على كتفيها أسفل رأسها الكبير الذي يذكرني بشخصية أقلام بيك ذوي الرأس الكبير الأسود الخالي من الملامح، بدأت الفكرة تجاهد وتعافر في الخروج بين ثنايا عقلي المتشابك، لتبحث عن دربها الخاص.

وصلت الفكرة إلى مكانٍ خالي، وجدت به الشمس في الصباح، تتعاقب مع القمر في الليل، وأعلنت أن هذا هو موطنها، وما أن استقرت حتى استقبلت فكرة أخرى من هؤلاء السالف ذكرهم، ومع كثرة تهافت الأفكار على أرض الميعاد التي لم يعد بها أحد، اقترحت بعض الأفكار انشاء دولة منظمة ذات قوانين ودستور ورئيس، بل وحتى جيش ليمنعوا وصول الأفكار الغير منطقية من بقية جنسهم عن الوصول إليهم.

بدأت الأفكار في تنفيذ مخططاتها في حين كان الشغل الشاغل، من منهم يصلح أن يكون رئيساً ؟ فكلهم متساوون، كلهم خرجوا من نفس العقل، كلهم من ذوي روح التمرد، كلهم من نفس الأصل الغير منطقي لعقلي، فقامت مشادة كان حاضرها الشيطان نفسه، ولما لا؟ أليس كل هذا يحدث في عقلي؟ فليحضر الشيطان بنفسه إلى عقلي إن أردت. هنا تدخل الشيطان وقرر ترشيح نفسه لرئاسة تلك الدولة القوية المكونة من الأفكار العاقلة المستقيمة المتبقية مني.اختلفت الأفكار على أهلية الشيطان لقيادتهم، فمنهم من رحب على أساس أن الشيطان شاطر ، ومنهم من رفض كخلفية فكرية عن إتجاهات الشيطان وإهتماماته، وشَكّهم في صلاحية هذا الشخص لقيادتهم، وقرروا ترشيح أنفسهم أمامه والقيام بإنتخابات ديموقراطية عادلة.

اختار الشيطان بعض الأفكار التي تمثل جانب الإبداع ليكونون مدراء الحملة الإنتخابية، وبالفعل قامت تلك الأفكار بتصميم اللوح والملصقات لتزيين عقلي الداخلي وتأييد الشيطان، وبالطبع لم يكتفِ الشيطان بحملات الدعاية فقط إنما قام برشوة بعض الأفكار الضعيفة لتؤيده ،ووعد الأفكار الخاصة بالعظمة والتملك برشاوي عينية، كقصر يطل على السوائل القرنية في عيني، أو شراء تلك البقعة في طبقة الأم الرحيمة الاسفنجية في عقلي ليحولها ملاهي لصغار الأفكار، بجانب عروض أخرى كثيرة، حتى جاء يوم الانتخابات.

وقف الشيطان أمام عيني ليرى إنعكاسه عليها كالمرآة، تطلّع إلى ملابسه، عباءة سوداء يحدوها خط أحمر من الطرف بطول الجسم، أنفه شامخ، عاقد النية على ألا يخسر، واثق من نفسه،ثم أدار ظهره فرأينا يديه متشابكة خلفه، ابتعد عن العين ثم اقترب مرة أخرى،  وبعدها ابتعد عن العين ثم اقترب مرة أخرى وهو يتابع انعكاسه على عيني، ثم قرر الاقتراب من الأذن ليسمع نتيجة الأخبار، سأل الأفكار المتجمعة حولها فصرّحوا أن النتيجة ستُعلن بعد خمس دقائق، فابتعد مزمجراً، وبعد خمس دقائق أتته تلك الفكرة المسئولة عن عدم الثقة بالنفس مهرولة، فتعرقلت بخلية دم بيضاء وسقطت عند أرجل الشيطان وأعلنت فوزه بالرئاسة بنسبة 87 في المائة، فصاح الشيطان مغتبطاً، وقرر عقد مؤتمراً صحفياً ليعلن عن خطته للمرحلة القادمة

صرّح الشيطان في مؤتمره بقانونية الرشوة، والفساد، والكذب، والسرقة، والغش بأشكاله، فتعامل الشعب ذوي الأصول الغير منطقية المختلّة مع هذه الأوامر والقوانين كما فهمها، وأصبحت الرشوة تكتب في الأوراق الرسمية كتسعيرة لابد من دفعها، وأصبحت تُعامل كضريبة لها خصائص أي ضريبة أخرى، وشاركت في نمو المجتمع والمساهمة في تتطوير المنشاءات العامة، وسرعان ما أختفت الرشوة بالصورة المعروفة لتصبح ضريبة أساسية لتسيير الأوراق الرسمية، أما في ما يختص بباقي أوامره فاحتاروا في تنفيذها كلها لعدم إتفاقها معاً، فإن فَسَدوا يجب أن يدّعو الصلاح كذباً، حيث أن الشيطان أمر بالكذب، وإن إدّعوه، سيظن بهم السوء من حيث عدم تنفيذ أوامره والجهر بمعارضتها، فقروا إتخاذ الصلاح مسلكاً والكذب وإدّعاء الفساد كإظهار ولائهم لحاكمهم الشيطان.

راقت هذه الطريقة لتنفيذ القوانين معظم الأفكار وبدأوا العمل بها، فتطورت الدولة الخيالية في عقلي، أدبياً وأخلاقياً، بِدءاً بإختفاء الرشوة وتوغل التقوى في نفوس الأفكار، حتى إرتقاء التعليم، مما أدى إلى رؤية الشيطان رؤية مختلفة، رؤية شخص يحفزهم على الفساد وهم فيهم الصلاح، رؤيتهم لشخص يريد خفسهم بينما هم التطور والرقي نفسه. فبدأت تتقافز على ألسنتهم، إن كانت للأفكار ألسنة، كلمة الثورة، وأبدى البعض إهتمامه بها  ونشرِها حتى وصلت لأذان باقي الأفكار، إن كانت للأفكار أذان، فقاموا بثورة غاضبة أطاحوا فيها بالشيطان وطردوه شر طردةٍ، وأصبحت وظيفة رئيس الدولة الخيالية، خالية.

أقامت بعض الأفكار الخاصة بالتنظيم مكتب لتسجيل المرشحين الجدد، وتوالت الأفكار، وكانت تلك الفكرة المملة التقليدية جالسة  خلف المكتب لتسجل أسماء المرشحين، فكرة قيادية، فكرة الكاريزما، فكرة النرجسية، فكرة حب السلطة...إلخ، وتوالت الأفكار حتى انضم إليهم من هو أطول منهم قامة بشكل ملحوظ، أكثرهم هدوءاً وصمتاً، يلبس البياض، وعندما حان دوره أعلن عن اسمه وهويته، الله أعمل إله، تخلت الفكرة المكتبية عن رتابتها وتتطلعت إلي مخاطبها، حدّقت مدهوشة، فاغرة فاها، إن كانت للأفكار أفواه، ثم دونته وأغلقت مكتب التسجيل بسرعة، معلنة إكتفاءها من المرشحين، وجريت لتنفرد بالفكرة المنظمة
- إن الله يريد التسجيل معنا
- وماذا فعلتي؟
- سجلته
أطرقت الفكرة تفكر في رد، لكنها لم تجده، ذهبت لتتأكد بنفسها، فرأته، رجعت، ونظت مطولاً للفكرة التقليدية الواقفة أمامها، ثم أعلنت إنه يجب إعلام باقي الأفكار وعليهم أن يختاروا في ظل إنتخابات ديموقراطية عادلة.

أحدث إعلان إنضمام الله لقائمة المرشحين إنقسام بين الأفكار، بين مؤيديه ومعارضيه، واتجه مؤيدوه لفص المخ الأيمن كتظاهرة، بينما اتجه معارضوه لفص المخ الأيسر، وتباينت الأفكار، فمؤيدوه يختاروه بما أنه الحاكم المطلق وسيد الكون، كما أن له باع وخبرة كبيرة في القيادة والإدارة، على خلفية وظيفته السابقة كإله لملايين السنين، بينما إتجه معارضوه بأنظارهم إلى العقوبات التي ينزلها والتي، من وجهة نظرهم، أقسى من أن يحتملوها جزاءاً لأخطائهم.

اشتدت حدة المظاهرات بين الطرفين، حتى تتسبوا لي بصداع لم أعي مصدره، بينما وقفت الأفكار الخاصة بالشك والحيرة، موقع المحايد، لا هي مؤيدة ولا هي معارضة. تنازل بعض المرشحين عن حقهم في الترشيح، لوجود مرشح قوي مثل الله في المنافسة، بينما أصر الباقون على البقاء، خصوصاً مع وجود معارضين لله يتظاهرون الآن في الفص الأيسر. أُقيمت الحملات الدعائية لكل المنافسين، وواجهت حملة (الله رئيساً) تحدياً من المعارضين إلى أن جاء يوم الإنتخابات.

تدافقت الأفكار أفواجاً إلى اللجان الإنتخابية عند مركز إتخاذ القرار بالعقل، وحُـددت الأماكن الخاصة بكل مرشح، كل فكرة تكتب إختيارها وتضعه في مظروف ويُسلم إلى أيدي الأفكار المُختصّة. تمر ساعات اليوم بطيئة خصوصاً مع الحر شديد، نعم الجو بداخل عقلي حار، أنا اخترته ليكون كذلك، ثم يأتي أخر مظروف إنتخابي ليُوضع في مسواه، وتأخذ الأفكار إستراحة قبل أن تبدأ في عملية الفرز.

في الناحية الأخرى من عقلي، يجلس المرشحون ينتظرون النتيجة، منهم من يتحرك دون هوادة، ومنهم من يجلس على نسيج عقلي هاديءٌ، ثابت الجنان، واثقٌ من نفسه، بينما اختفى البعض عن الأنظار لحين صدور النتيجة. من وقتٍ لآخر ترسل إحدى الأفكار فكرة صغيرة لتستطلع الأمر فتعود خاوية دون أدنى إجابة، حتى جاء الليل، وتحول البعض من الهدوء إلى العصبية والتوتر، بينما حافظ قلة منهم على أعصابهم ووقارهم، جل ما يفعلونه هو فرك أيديهم للوقاية من البرد القارس، أليس هذا عقلي ولأفعلن به ما أشاء؟ إذاً البرد قارس الآن.

في وسط كل تلك الأحداث جاءت تلك الفكرة مسرعة لتعلن النتيجة، وظهر معها تلكم الأفكار المختفية منذ كان الجو شديد الحرارة صباحاً، وترقبوا سماع التصريح
بحسب ما قمتم به من إنتخابات
فلي أن أعلن اسم رئيس الدولة الخيالية الجديد
وهو...
تتوقف الفكرة لتفتح المظروف الكبير
الله و تخليه عن وظيفته السابقة كإله
وإهتمامه بشئون الوطن
كان وقع هذا الخبر على أذان الأفكار المؤيدة مُغبطاً، حيث قام المتحمسون منهم بإطلاق الشعارات والهتافات تحيةً لرئيسهم الجديد، بينما اغتاظ معارضوه، وانضمت قلة منهم من الأفكار المتملقة إلى جهة المؤيدين، فزاد عددهم أكثر، وطافوا في المدينة ليعلنوا فرحتهم، في حين أن باقي الأفكار المرشحة كانت تهنيء الله على فوزه، منهم بفرح ومنهم بغيظ مخفي، وفي النهاية دعا الله لتكوين مجلس الأفكار ليعرض عليه خطته للمرحلة القادمة.

استخدمت الأفكار نفس اللجان من أجل تكوين مجلس الأفكار الذي سرعان ما وجد، وبدأ أول إجتماع بحضور الرئيس الجديد. كان الجو المحيط بالإجتماع مفعم بالتفائل والرجاء خصوصاً وجود نسبة كبيرة من مؤيدي الله في المجلس. بدأ الله بالترحيب بالأفكار وسرْد أفكاره ومناقشتها معهم والوصول إلى نتائج، أهمها ضرورة الحفاظ على التقوى والصلاح، ونشر الخير والصدق في المجتمع، مع إستمرارية التتطور والتقدم، مع عرض بعض المشروعات في سبيل تحقيق ذلك، وفي النهاية تم نشر بيان يوضح ما تم في المجلس.

بعض المسئولين الأقل في المكانة رأوا أن قرارات المجلس مبالغ فيها، فعملوا على إختزالها وتبسيطها قبل عرضها على الشعب، فجاء من هم أقل مكانة في السلم البيروقراطي ليعدلوا على البيان الجديد بهدف تحسينه وتطويره وتبسيطه. انزلق البيان على المدرج الوظيفي حتى وصل إلى الفكرة العامة البسيطة التي تمشي على طرقات عقلي، فجاء سهلاً بسيطاً، بعيد كل البعد عن البيان الأصلي، فبدأ الفساد ينخر في المجتمع ببطء.

في المصالح الحكومية بدأ الموطفون في إبتزاز العملاء، أملاً في ملء الدرج مرةٌ أخرى، في حين لمعت بعض الأفكار الإنتهازية في المجتمع على حس التطوير والإرتقاء المزيف، الذي يخبيء وراءه المكسب الغير مشروع.

وصل الفساد حتى للفكرة البسيطة القانعة بمكانتها في المجتمع الفكري، وظهر في الخلايا الفقيرة من مخي أفكار أمثال الفتوات يمثلون جانب العند والتعدي في شخصيتي، ليحكموا تلك الأفكار المستضعفة التي تمثل الجانب الضعيف في شخصيتي، وبدأت ظهور جمل مثل  الأفكار الصالحة ليس لا مكان في هذا البلد ، ومالت بعض الأفكار إلى الهجرة إلى بلد أخر أو حتى الرجوع إلى الخلايا الأصلية، حتى وإن كان مالكها مختل عقلياً، فِكره غير ثابت، إلا إنه أفضل حالاً من العيش هنا. منهم من هاجر ومنهم من لم يقو على ذلك.

استمرت المعيشة على هذا المنوال، وكل أمور الحياة في انحدار مستمر، حتى التعليم، وبدأ يترسخ في نفوس الأفكار إنهم أموات، ولا نهضةٍ لميت، وقبلوها كحقيقة واقعة واستسلموا لأمرهم، حتى تلك الحادثة التي غيرت نظرتهم لأنفسهم، بجانب إختلاف وجه الدولة تماماً. أسوأ ما يحدث لفكرة هو أن تُخنق، وهو ما حدث لتلك الفكرة الحالمة. كانت هناك قلة قليلة من الأفكار المتفائلة على تنوعتهم، ومنهم تلك الفكرة الحالمة التي عرضت مشروع مفاده هو التطوير، ولكنه قُبل بالرفض، وكتبعات صُدر قرار على هذه الفكرة بالخنق، بتهمة زعزعة الأمن العام للدولة، مما أثار حفيظة الأفكار المتفائلة والإيجابية التي كانت من المساندين للفكرة ومشروعها قبل توقيع أقصى العقوبات عليها.

نظمت بعض الأفكار الإيجابية حملة تظاهرية للتعبير عن غضبها حيال الظلم الواقع على زميلتهم، ثم تتطورت المظاهرة لتعم الظلم الموَقع على باقي الأفكار. اختاروا الفص الأيمن كمكان البدء قبل الإنتشار في باقي أقطار العقل، ومع مرورهم على الخلايا الفقيرة كان العدد يزداد، وكانت الهتافات تتصاعد حتى عنان رأسي، مطالبة بالتغيير، وإقصاء الإدارة عن منصبها، وتحركوا حتى وصلوا إلى مقر إتخاذ القرارات حيث الإدارة ليعسكروا حتى تتم مطالبهم.

كان من الممكن أن تطول تلك التظاهرات مثل سابقتها، لكن الحاكم استمع إلى شعبه وقرر الإنصياع لمطالباتهم. خرج الله، وأطل برأسه على الأفكار المتجمعة أسفل نافذته، تتطلع إلى الشعب في صمت، فإمتنع عن الكلام وعم السكون،
أعلن الله عن تنحيه...
ورجوعه لوظيفته القديمة كإله...
ثم اختفى وسط نظرات الأفكار الثائرة....
بعد مسيرة صحوة الشعب...


قصة متكررة..!!


يخيم السكون على القصر الملكي في هذا الوقت من الليل، إلا من غرفة الملك الذي يتقلب في سريره، يتصبب عرقاً، يشهق، يستيقظ ممسكاً بصدره من فرط الإنفعال، يحرك فمه فنسمع صوت جفافه، ينادي على أحد الخدام أن يأتي له بالماء، يتجرعه مرة واحدة، ثم يرشف المتبقي ببطء، ويريح رأسه لينام مجدداً.

فتح فرعون عينيه، حدق مطولاً في سقف السرير الخشبي، اعتدل في جلسته، ونادى خدامه بنفاذ صبر، بدأ يغسل وجهه ويلبس ملابسه، تأتي الجاريات لتكحيل عينيه الواسعتين الحائرتين، ثم وضْع باروكة الشعر على رأسه المستدير، والعقد على صدره تحت صدغيه الكبيرين، يقف قبل أن يكمل خدامه عملهم المعتاد، يمشي بغضب ورباط إحدى نعليه غير محكم.

يدخل فرعون لبهو القصر، متعكر المزاج، زائغ النظرات، يجلس على عرش كبير، ذو ظهر عالي ومقابض على شكل رأس أسد، ينظر للأكل ويزدريه، يعلن ميله لشرب الخمر، ولكنه يرشف رشفة صغيرة من السائل الأحمر ويرجع الكأس الذهبي المرصع بالجواهر للساقي الواقف بجانبه، ويمتنع عن شرب الخمر.

يطلب تجمع السَحرة لإستشارتهم، يدخل أمهرهم من الباب في خطواط سريعة ثابتة الجنان، بكتانهم ناصع البياض وعِصيهم بنية اللون، يغلب على ملامحهم الجدية من خلال عيونهم المكحلة بغزارة التي تعلوها حواجب ثقيلة، ويلف رؤوسهم الصلعاء شريط رفيع من القماش الأسود.

يتقدموا، وينتظروا، ينظر فرعون لهم ملياً، يتفحص وجوههم، يريح رأسه على يده اليمنى وينظر للفراغ وكأنه يفكر، يلتفت إليهم سريعاً وكأنه تفاجأ بوجودهم، يمعن النظر في صمت، ثم يبدأ في الكلام.
" استمعوا سحرتي المخلصون، إلى حلم رأيته في النوم،
إذ إني أقف على شاطيء النيل، من حر الشمس أستجير،
فيخرج سبع بقراتٍ سمان، يرعون على شاطيء النيل بأمان،
تلحقهم سبع بقراتٍ عجاف، يغلب عليهم الجفاف،
اقتربوا من البقرات السمان، فالتهموهم وعلى هذا استيقظت من المنام."

انتهى الملك من سرد حلمه، فساد الصمت في أرجاء البهو الملكي، واختفت اللمعة من أعين السحرة، لم يجرؤ أحد أن يحرك ساكناً، أو يعلن معرفته أو جهله بتفسير الحلم، حتى تقدم أكبرهم سناً و أكثرهم حنكة ليعبر عن جهلهم، ويتراجع مرة أخرى في خِزي، منكّس الرأس، فصرفهم الملك بإيماءة صغيرة، دون أن ينظر لهم.

مال الملك بيده ناحية الساقي الواقف بجانبه، طلباً في المزيد من الخمر. صادف أن ذلك الساقي كان قد ألقى في السجن منذ سنتين، فحلم هو وخباز زميله بحلم وفسره أحد الشباب فكان ما قاله حقاً. مال الساقي بعد تجرع الملك للسائل الأحمر المعتق، وحكى له عن الشاب، و الملك يسمع بإنتباه...

دخل شاب في العقد الثالث من العمر، رث الملابس، مدجج بالأصفاد، ذقنه غير حليق، خمري البشرة، ذو شعر طويل منسدل على كتفيه، يتسم بالوسامة، ذو ملامح دقيقة، يمشي بإطمئنان كمن يعرف قدره، يمتزج فيه عظمة النبلاء و بساطة الفقراء. يقف حافي القدميين على مقربة من الملك، يتفحصه الملك من أُمة رأسه حتى أخمص قدميه، يميل فرعون على الساقي ويهمس في أذنه بكلام لا يصل مرماه حتى مسمع الشاب، يرد عليه الساقي، فيعتدل فرعون في جلسته وينظر بشموخ إلى الشاب.
" قيل لي أيها الهمام، إنك تستطيع تفسير الأحلام،
فهل لك أن تفسر لي حلمي، وتنزع عني قلقي وتطمئنني؟ "
حكى فرعون عن حلمه، فتقدم الشاب بضع خطوات من الملك
" أيها الملك الكبير، إن هذا الحلم تحذير،
ستأتي سبع سنوات رخاء، تليها سبع سنوات جفاء،
فيجب أيها الملك المهاب، الإقتصاد وعدم الإسهاب،
وتجميع الغلة السنوية في مخازن، فهي حالياً المكان الآمن،
...   "
" توقف أيها الفأر الصعلوك، فليس مكانك بين الملوك،
أتينا بك فقط للإستنارة، وليس للإستشارة،
فمن أنت كي تحكم الأمور؟ "

وقف الملك غاضباً، وأشار للحراس بسحب الشاب إلى معتقله، وأمر بجلده مئة جلدة لتعديه على سلطة الملك التنفيذية وسلطة وزيره الإستشارية، مما في ذلك من إهانة لمكانة فرعون مصر.

قام الملك بإستدعاء وزيره الذي جاء على مضض، بهامته المحنية برغم طوله، تعلو وجهه ابتسامة بلهاء تنم عن سذاجة، يزينها شارب أبيض كباقي شعر وجهه، يتقدم فيأذن له الملك بالجلوس.

يسرد الملك الحلم والتفسير، يتوقف من آن لآخر ليتأكد من متابعة وزيره له، فيتمتم بهمس غير ذو معنى، من شأنه تأكيد إنتباهه ومتابعته لكلام الملك، فيكمل حتى يصل إلى نقطة الإقتراح المقدم من الشاب، فينتفض الوزير و يصحو من غفوته.
" أتجرأ الشاب الهلفوت؟ ألم تسكته القيود؟
أهذا ما أل إليه حال البلاد؟ يصرح برأيه كل كلبٍ من العباد؟"

فيتدخل الملك لتهدئته، مؤكداً على عقاب الشاب جزاء وقاحته وتعديه على أسياده، ويبدأون في التفكير لإيجاد حل لهذه المشكلة
" أولاً هذا الرأي مغلوط، يمثل خراباً على البيوت،
والقول المقول هو الإستحواذ على المحصول،
نضعه أولاً بأولاً في خزائننا مكدساً،
أما عن باقي الصعاليك، فيموت من حاله يضيق."

فإستحسن فرعون كلام وزيره، وعلى إثره أمر بتجميع ضرائب ممثلة في مقدار أردّب من أي محصول عن كل فدان، فسارع رئيس الحرس بتوزيع الأوامر الجديدة على الجنود نقلاً عن الفرعون، تجميع ضرائب من الشعب متمثلة في مقدار أردب ونصف أردب من كل محصول عن كل فدان، فبدأ الجنود بدورهم تنفيذ الأمر كما سمعوه، وجمعوا من الشعب ضرائب بمقدار إثنين من الأردب من كل محصول عن كل فدان.
كان يسلب من خيرات مصر كل موسم حصاد، ما يمثل مليون أردب، يوزع ربعه على الجنود، بدون علم الفرعون، و يحصل رئيس الحرس على ربع المسلوب، بدون علم الفرعون، فيصل الباقي إلى فرعون ووزيره، كاملاً غير منقوص، بحسب علم الفرعون.

مرت الأيام، وتتابعت الأشهر، فتعاقبت السنون، حتى إنتهت سبع سنوات الرخاء، وإستقبلت مصر أول سنة تضِن فيها الخيرات. لم يستوعب الشعب في باديء الأمر وجود مجاعة وبخل الأرض، بعد مرور سبع سنوات تفيض فيها الأرض بخيراتها، وما أن إستوعب الشعب الحقيقة، حتى بدأ يطالب الملك بعمل خطوات لفض الأزمة الراهنة، يخرج لهم خالي الوفاض، يعلن عن حيرته وقلة حيلته ويدعو الناس أن يتصرفوا، فقد مروا معاً، هو والشعب، بمحن أصعب فتخطوها.
" يا شعبي أناشدكم، فأنا أفهم مطالبكم،
و لكن ليس بيدي حيلة، فهي عرقلة غير متوقعة وثقيلة،
لقد مررنا معاً بأزماتٍ أقصى، أو هذه علينا تستقصى؟
هبوا يا شعبوا تصرفوا، وعن الغلة ابحثوا. "
تدهورت أحوال مصر يوماً بعد يوم، من سيءٍ إلى أسوأ، إنحسرت السلع، فإرتفعت الأسعار، حتى إنتهى ما يمكن أن يباع، هنا فكر فرعون أن يفرج عن قليل من الغلة، في حدود المعقول، و يبيعها بالسعر الجديد، تهافت الناس على الشراء حتى لم يعد عندهم ما يدفعون به، فبدأ رئيس الحرس بإخراج كمية من المسلوب، في حدود المعقول، ويبيع بسعر أقل من الملك، تزاحم الشعب على الحبوب الرخيصة، فهي أغلى من المعتاد ثلاث مرات فقط، أما الحراس فلم يكونوا من الحنكة أن يفكروا في بيع بعض المحصول، بل إستبقوه لأنفسهم.

مرت سنون على هذا الحال، في إنخفاض مستمر، و بدأ إرتكاب الجرائم و السرقات في العلن، وظهور فتوة لكل منطقة، يقهر المقيمين ويزيد من شقائهم، حتى أحوال الفرعون في القصر لم تكن في حالٍ أفضل، مخزونه قارب على النفاذ، ولم يبلغوا من المدة غير ثلاث سنوات، فنادى وزيره الذي جاء على مضض، متكاسلاً ممتليء الجسم، فصارحه الملك بقلقه على المستقبل، ابتسم الوزير بسذاجة كعادته.
" يا أيها الفرعون، يا ملك الكون،
لا تخف، فإني للإنحدارِ أقف،
أعدُ خطة خمسية، مفادها هو التنمية،
دعني أجهزها مولاي، فالإستقرار هو مسعاي."

استدار الوزير والإبتسامة لم تفارق وجهه، تمر بضع ساعات قبل أن يأتي أحد الحراس ليؤكد على الملك تنفيذ الأمر الموجه منه، بتأمين رحيل الوزير خارج البلاد مصطحباً معه كمية ضخمة من الغلة...

فجأة تتوقف الطيور عن الزقزقة، ويتوقف المتصايحون في السوق، تتوقف الهمهمات في الشارع، وترفض الأرضية التصريح بوقع خطوات الحارس وهو يرجع إلى موقعه، ينهار المكان ويختفي، كل ما يراه فرعون الآن هو الفراغ، كل ما يسمعه هو السكون، لا تمر عبر ذاكرته غير ذكرى واحدة فقط، ذاك الشاب، مفسر الأحلام، حين إقترح الحل منذ عشر سنوات قبل أن يتمم فترة عقوبته ويسافر ليعمل في بلد أجنبي وينجح، فيتقافز إلى عقله سؤالاً واحداً
" أما كان لي أن أستمع للشاب؟"

(النهاية)