samedi 19 mars 2011

قصة متكررة..!!


يخيم السكون على القصر الملكي في هذا الوقت من الليل، إلا من غرفة الملك الذي يتقلب في سريره، يتصبب عرقاً، يشهق، يستيقظ ممسكاً بصدره من فرط الإنفعال، يحرك فمه فنسمع صوت جفافه، ينادي على أحد الخدام أن يأتي له بالماء، يتجرعه مرة واحدة، ثم يرشف المتبقي ببطء، ويريح رأسه لينام مجدداً.

فتح فرعون عينيه، حدق مطولاً في سقف السرير الخشبي، اعتدل في جلسته، ونادى خدامه بنفاذ صبر، بدأ يغسل وجهه ويلبس ملابسه، تأتي الجاريات لتكحيل عينيه الواسعتين الحائرتين، ثم وضْع باروكة الشعر على رأسه المستدير، والعقد على صدره تحت صدغيه الكبيرين، يقف قبل أن يكمل خدامه عملهم المعتاد، يمشي بغضب ورباط إحدى نعليه غير محكم.

يدخل فرعون لبهو القصر، متعكر المزاج، زائغ النظرات، يجلس على عرش كبير، ذو ظهر عالي ومقابض على شكل رأس أسد، ينظر للأكل ويزدريه، يعلن ميله لشرب الخمر، ولكنه يرشف رشفة صغيرة من السائل الأحمر ويرجع الكأس الذهبي المرصع بالجواهر للساقي الواقف بجانبه، ويمتنع عن شرب الخمر.

يطلب تجمع السَحرة لإستشارتهم، يدخل أمهرهم من الباب في خطواط سريعة ثابتة الجنان، بكتانهم ناصع البياض وعِصيهم بنية اللون، يغلب على ملامحهم الجدية من خلال عيونهم المكحلة بغزارة التي تعلوها حواجب ثقيلة، ويلف رؤوسهم الصلعاء شريط رفيع من القماش الأسود.

يتقدموا، وينتظروا، ينظر فرعون لهم ملياً، يتفحص وجوههم، يريح رأسه على يده اليمنى وينظر للفراغ وكأنه يفكر، يلتفت إليهم سريعاً وكأنه تفاجأ بوجودهم، يمعن النظر في صمت، ثم يبدأ في الكلام.
" استمعوا سحرتي المخلصون، إلى حلم رأيته في النوم،
إذ إني أقف على شاطيء النيل، من حر الشمس أستجير،
فيخرج سبع بقراتٍ سمان، يرعون على شاطيء النيل بأمان،
تلحقهم سبع بقراتٍ عجاف، يغلب عليهم الجفاف،
اقتربوا من البقرات السمان، فالتهموهم وعلى هذا استيقظت من المنام."

انتهى الملك من سرد حلمه، فساد الصمت في أرجاء البهو الملكي، واختفت اللمعة من أعين السحرة، لم يجرؤ أحد أن يحرك ساكناً، أو يعلن معرفته أو جهله بتفسير الحلم، حتى تقدم أكبرهم سناً و أكثرهم حنكة ليعبر عن جهلهم، ويتراجع مرة أخرى في خِزي، منكّس الرأس، فصرفهم الملك بإيماءة صغيرة، دون أن ينظر لهم.

مال الملك بيده ناحية الساقي الواقف بجانبه، طلباً في المزيد من الخمر. صادف أن ذلك الساقي كان قد ألقى في السجن منذ سنتين، فحلم هو وخباز زميله بحلم وفسره أحد الشباب فكان ما قاله حقاً. مال الساقي بعد تجرع الملك للسائل الأحمر المعتق، وحكى له عن الشاب، و الملك يسمع بإنتباه...

دخل شاب في العقد الثالث من العمر، رث الملابس، مدجج بالأصفاد، ذقنه غير حليق، خمري البشرة، ذو شعر طويل منسدل على كتفيه، يتسم بالوسامة، ذو ملامح دقيقة، يمشي بإطمئنان كمن يعرف قدره، يمتزج فيه عظمة النبلاء و بساطة الفقراء. يقف حافي القدميين على مقربة من الملك، يتفحصه الملك من أُمة رأسه حتى أخمص قدميه، يميل فرعون على الساقي ويهمس في أذنه بكلام لا يصل مرماه حتى مسمع الشاب، يرد عليه الساقي، فيعتدل فرعون في جلسته وينظر بشموخ إلى الشاب.
" قيل لي أيها الهمام، إنك تستطيع تفسير الأحلام،
فهل لك أن تفسر لي حلمي، وتنزع عني قلقي وتطمئنني؟ "
حكى فرعون عن حلمه، فتقدم الشاب بضع خطوات من الملك
" أيها الملك الكبير، إن هذا الحلم تحذير،
ستأتي سبع سنوات رخاء، تليها سبع سنوات جفاء،
فيجب أيها الملك المهاب، الإقتصاد وعدم الإسهاب،
وتجميع الغلة السنوية في مخازن، فهي حالياً المكان الآمن،
...   "
" توقف أيها الفأر الصعلوك، فليس مكانك بين الملوك،
أتينا بك فقط للإستنارة، وليس للإستشارة،
فمن أنت كي تحكم الأمور؟ "

وقف الملك غاضباً، وأشار للحراس بسحب الشاب إلى معتقله، وأمر بجلده مئة جلدة لتعديه على سلطة الملك التنفيذية وسلطة وزيره الإستشارية، مما في ذلك من إهانة لمكانة فرعون مصر.

قام الملك بإستدعاء وزيره الذي جاء على مضض، بهامته المحنية برغم طوله، تعلو وجهه ابتسامة بلهاء تنم عن سذاجة، يزينها شارب أبيض كباقي شعر وجهه، يتقدم فيأذن له الملك بالجلوس.

يسرد الملك الحلم والتفسير، يتوقف من آن لآخر ليتأكد من متابعة وزيره له، فيتمتم بهمس غير ذو معنى، من شأنه تأكيد إنتباهه ومتابعته لكلام الملك، فيكمل حتى يصل إلى نقطة الإقتراح المقدم من الشاب، فينتفض الوزير و يصحو من غفوته.
" أتجرأ الشاب الهلفوت؟ ألم تسكته القيود؟
أهذا ما أل إليه حال البلاد؟ يصرح برأيه كل كلبٍ من العباد؟"

فيتدخل الملك لتهدئته، مؤكداً على عقاب الشاب جزاء وقاحته وتعديه على أسياده، ويبدأون في التفكير لإيجاد حل لهذه المشكلة
" أولاً هذا الرأي مغلوط، يمثل خراباً على البيوت،
والقول المقول هو الإستحواذ على المحصول،
نضعه أولاً بأولاً في خزائننا مكدساً،
أما عن باقي الصعاليك، فيموت من حاله يضيق."

فإستحسن فرعون كلام وزيره، وعلى إثره أمر بتجميع ضرائب ممثلة في مقدار أردّب من أي محصول عن كل فدان، فسارع رئيس الحرس بتوزيع الأوامر الجديدة على الجنود نقلاً عن الفرعون، تجميع ضرائب من الشعب متمثلة في مقدار أردب ونصف أردب من كل محصول عن كل فدان، فبدأ الجنود بدورهم تنفيذ الأمر كما سمعوه، وجمعوا من الشعب ضرائب بمقدار إثنين من الأردب من كل محصول عن كل فدان.
كان يسلب من خيرات مصر كل موسم حصاد، ما يمثل مليون أردب، يوزع ربعه على الجنود، بدون علم الفرعون، و يحصل رئيس الحرس على ربع المسلوب، بدون علم الفرعون، فيصل الباقي إلى فرعون ووزيره، كاملاً غير منقوص، بحسب علم الفرعون.

مرت الأيام، وتتابعت الأشهر، فتعاقبت السنون، حتى إنتهت سبع سنوات الرخاء، وإستقبلت مصر أول سنة تضِن فيها الخيرات. لم يستوعب الشعب في باديء الأمر وجود مجاعة وبخل الأرض، بعد مرور سبع سنوات تفيض فيها الأرض بخيراتها، وما أن إستوعب الشعب الحقيقة، حتى بدأ يطالب الملك بعمل خطوات لفض الأزمة الراهنة، يخرج لهم خالي الوفاض، يعلن عن حيرته وقلة حيلته ويدعو الناس أن يتصرفوا، فقد مروا معاً، هو والشعب، بمحن أصعب فتخطوها.
" يا شعبي أناشدكم، فأنا أفهم مطالبكم،
و لكن ليس بيدي حيلة، فهي عرقلة غير متوقعة وثقيلة،
لقد مررنا معاً بأزماتٍ أقصى، أو هذه علينا تستقصى؟
هبوا يا شعبوا تصرفوا، وعن الغلة ابحثوا. "
تدهورت أحوال مصر يوماً بعد يوم، من سيءٍ إلى أسوأ، إنحسرت السلع، فإرتفعت الأسعار، حتى إنتهى ما يمكن أن يباع، هنا فكر فرعون أن يفرج عن قليل من الغلة، في حدود المعقول، و يبيعها بالسعر الجديد، تهافت الناس على الشراء حتى لم يعد عندهم ما يدفعون به، فبدأ رئيس الحرس بإخراج كمية من المسلوب، في حدود المعقول، ويبيع بسعر أقل من الملك، تزاحم الشعب على الحبوب الرخيصة، فهي أغلى من المعتاد ثلاث مرات فقط، أما الحراس فلم يكونوا من الحنكة أن يفكروا في بيع بعض المحصول، بل إستبقوه لأنفسهم.

مرت سنون على هذا الحال، في إنخفاض مستمر، و بدأ إرتكاب الجرائم و السرقات في العلن، وظهور فتوة لكل منطقة، يقهر المقيمين ويزيد من شقائهم، حتى أحوال الفرعون في القصر لم تكن في حالٍ أفضل، مخزونه قارب على النفاذ، ولم يبلغوا من المدة غير ثلاث سنوات، فنادى وزيره الذي جاء على مضض، متكاسلاً ممتليء الجسم، فصارحه الملك بقلقه على المستقبل، ابتسم الوزير بسذاجة كعادته.
" يا أيها الفرعون، يا ملك الكون،
لا تخف، فإني للإنحدارِ أقف،
أعدُ خطة خمسية، مفادها هو التنمية،
دعني أجهزها مولاي، فالإستقرار هو مسعاي."

استدار الوزير والإبتسامة لم تفارق وجهه، تمر بضع ساعات قبل أن يأتي أحد الحراس ليؤكد على الملك تنفيذ الأمر الموجه منه، بتأمين رحيل الوزير خارج البلاد مصطحباً معه كمية ضخمة من الغلة...

فجأة تتوقف الطيور عن الزقزقة، ويتوقف المتصايحون في السوق، تتوقف الهمهمات في الشارع، وترفض الأرضية التصريح بوقع خطوات الحارس وهو يرجع إلى موقعه، ينهار المكان ويختفي، كل ما يراه فرعون الآن هو الفراغ، كل ما يسمعه هو السكون، لا تمر عبر ذاكرته غير ذكرى واحدة فقط، ذاك الشاب، مفسر الأحلام، حين إقترح الحل منذ عشر سنوات قبل أن يتمم فترة عقوبته ويسافر ليعمل في بلد أجنبي وينجح، فيتقافز إلى عقله سؤالاً واحداً
" أما كان لي أن أستمع للشاب؟"

(النهاية)


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire