في بداية حياتي لطالما
امتعضت من جملة لم يقدر الزمن على إخفاءها لتطل بوجهها القبيح من آن لآخر، مفادها
أن على المرء مد أقدامه سعة غطاءه غير ذلك هو جهدٌ بلا طائل، ولطالما شعرت بضيق
أفق المقولة، أفليس من الأجدىَ أن نشترى غطاءاً أوسع؟!!
* * *
في بعض المناسبات يمنُّ
علينا الكبار بألعاب بسيطة لمن هم في سننا، دون العاشرة أو ينيف، أغلبها تكون تلك
الألعاب التي نستطيع اللعب بها بدون الحاجة إلى كهرباء، كألعاب الذكاء البلاستيكية
والتي من ضمنها -وأشدها رعباً لي- هي المربع الذي يحتوي على مجموعة أصغر من
المربعات مع غياب أحدهم لإتاحة مساحة التحرك للآخر. كنت أخاف منها لأني لا أستطيع
أبداً إرجاع المربعات لشكلها الأصلي وينتهي بي الأمر إلى تفكيكها واللعب بأجزاءها
على حدىَ ثم رميها.. وهنا تتوقف اللعبة، وحتى إن ندمت وفكرت في إرجاع أجزاءها ومن
ثَم إستكمال الطريق حتى النهاية، يكون من الصعب تركيب لعبة سالفة التخريب.
حدث من ضمن المرات القليلة
إني قررت أن ألعبها بشكل صائب وهنا عانيت دائماً فكرة أن أكون كَوّنت أغلب الصورة
ولا يبقى لي سوى أن أجلب أول مربع ليصير الأخير، وفي الطريق يتغير ما حققته من
إنجاز ليغدو خلقاً مشوهاً وفي محاولة مني لترميمه أضيّع القطعة الأخيرة من الأحجية
في مكانٍ آخر، ولأجدها يتعين عليّ هدم ما
توصلت إليه من نتائج، و في النهاية إما أتركها أو ألجأ للغش فأخلع القطعة الناقصة لأركبها
في مكانها المخصص لها، إلا أن لا القطعة تستقر بالحشر ولا أنتهي أنا بإحساس الرضا.
* * *
المشكلة في حيواتنا أن فرص
الغش بهذه النتيجة نادر، ومؤقت إكثر من اللعبة إن حدث، أما عن الهروب وترك اللعبة،
ففي حياتنا هذا شبه مستحيل في حياة أكثر إلحاحاً من لعبة يشدك فيها التحدي.
حياتنا تحركها أهداف، حتى
وإن كانت بسيطة أو إن كنا غافلين عنها أصلاً، إلا إنها المحرك الأساسي، أو بالأحرى
هي النواقص في حياتنا التي تدفعنا لإنشاء أهداف.
تعددت النواقص ومن ثَم
أساليبنا في الوصول إليها. فكلمة نواقص تأتي لتشمل منصب نسعىَ إليه، مستوىَ ماديّ،
مكانة بالنسبة لشخص آخر، إحتياج لنبذ شخصٍ من حياتك، إحساس مفاجيء بالغربة وسطة
زحمة أصدقاء، أو حتتى تتطلُع للتقرب من شخص لسببٍ ما لم تدرك كنهه بعد.
نحاول بشتىَ الطرق أن نملأ فراغات النواقص في حياتنا،
ودائماً ما نجد المربع الغائب فنحاول ملء فراغه بمربعٍ آخر ظناً منّا توصُلنا
للكمال بينما أنقصنا بقعةٍ أخرىَ وأوجدنا فراغاً جديداً يحتاج لملء عكَس رغبتنا
الأولى في ملء ما نقُص.
ضبطاً بعد ملء فراغ نبداً
في التفكير في الثمن الذي دفعناه إزاءه، أو بالأحرى ما نقص على صعيدٍ آخر، ما
هي المكاسب وما هي الخسائر جراء إختياري؟
* * *
هل سأصل للصورة الكاملة في
النهاية؟
هو السؤال الذي يلوح فوراً
بعد إدراك أن إنغماسي في الدراسة أنساني تكوين صداقات طويلة الأمد، أو أن ترتيب
أولوياتي لعائلتي أعماني عن إلتزماتي بالعمل أو محاولتي للتقرب من شخص أشردني عن
حقيقة أن ما كونته من مربعات سيزول عندما أصل للمربع البعيد.. فأقربه.
الغريب إننا إذا توصلنا
للشكل النهائي سنترك اللعبة! نحن نعرف الشكل لأننا رأيناه قبل أن نعبث به بأنفسنا،
أما عن الحياة فما هو الشكل الذي يسعى إليه كلٌ منّا وصولاً؟ وكيف نعرف إذا كنّا
وصلنا أم لا؟
في اللعبة، الشكل الكامل
ينقص دائماً قطعة لإتاحة التحريك من البداية. أنكون وصلنا للكمال في حياتنا ولم
ندرك لغياب قطعة القيد ووجود مساحة الحرية دائماً؟ فنعبث من جديد في كمالنا الذي
وصلنا إليه تواً ونضيعه لنبحث عنه من جديد غير عالمين إننا قد وجدناه.
* * *
ماذا يحدث إذا أدركنا
وصولنا لمسعانا.. هل سنترك الحياة؟ أسننتحر آنذاك؟ أم ننتظر زوال الأيام؟
النقص يسبب الألم، نعانيه
خلال السعى أو بعد خسارة إنجاز في محاولة منّا لإستيعاب إنجاز أوسع وأضخم، فما
أخلفت ورائي سوى العدم؛ لا استبقيت إنجازي القديم ولا تنعمت بحلاوة حلمي الجديد
لمرارة سابقه.
إلا إننا نعيش. نعيش في
حلقة من الفراغات والسعي لملئها بأقل
الخسائر، لكنها تظل خسائر ولولاها لثبُتنا في مكاننا لا نحرك ساكناً، نعد
الأيام منتظرين نهايتها؛ بينما ألم الفراغ هو ما يحيينا ويميزنا عن غيرنا ممن
تجاهلوه وآثروا الركود، فماتوا وسط عاصفةٍ من الجمال.
جمال حياتنا يكمن في عدم
كمالها، يتجلى في بحْثنا عن الفراغات ومحاولتنا لملئها المدفوعة بإحساس ألم ناتج
عن إنتزاع المربع الأمن من حياتنا لتطييب فراغ كان يؤلمنا سلفاً.
حياتنا هي مسيرة من البحث
عن الذات وتكوين صورة كاملة لها يتخللها فراغات جديدة يتبعها دائماً ألم، بينما من
كف عن الشعور به أو تجاهله فقد رمىَ لعبته الخاصة مدعياً موته عن إكمالها.. فغفل
جمال الحياة!
* * *
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire