لم أهتم قبلاً لتوثيق ما
يحدث في حملة (همزة وَصْل)، دائماً ما كانت بالنسبة لي حدث سيمر وينتهي، لكني شعرت
بالضيق أننا ما تمكنا من تصوير وتوثيق الحدث السابق.
حملة (همزة وَصْل) تهدف
أساساً إلى الربط ما بين المجتمع بشكله المعروف وبين فئات نبذها المجتمع لأي سبب
من الأسباب أو لأي أفكار مسبقة أنشأت حالة من دائرة مفرغة لا جدوى ولا طائل منها.
وتقوم الحملة على إنشاء رابط إنساني مع من تم رفضهم والحكم عليهم بشكل يخلو من
الإنسانية واللاعقلانية، وإرساء دعائم وعي في دوائرنا المجتمعية الضيقة عدداً
وأفقاً.
تمحور المشروع السابق حول
دعم أشخاص طالبي علم ممن لم تتِح لهم الظروف المادية الإمكانية للتعليم، وتم
إختيار قرى الفيوم كحقل عمل أولاً، ثم تم تغيير المكان لمدرسة بعينها في منطقة
(العمرانية) بمحافظة (الجيزة).
كانت الفكرة أن نقدم حقيبة
مدرسية تحتوي على إحتياجات دراسية لعام واحد تقريباً وبالتنسيق مع مدير المدرسة تم
إختيار مجموعة من الطالبات في الدرسة.
في اليوم المحدد إنطلقنا
بسيارتين محملتين بكل المطلوب، اتجهنا لشارع (المدارس) خلف سنترال (العمرانية)
ودخلنا مدرسة (المحمدية – بنات) وكان لأثر دخول السيارة محملة بالحقائب الحماس في
عيون أطفال اعتبروا الموضوع هدية خاصة موجهة لهم قبل أن تكون تسهيل لفرص التعلم.
كانت المدرسة على قدر
بساطتها نظيفة مهندمة إلا أن عدد المنتظرين يشي بإحتياج هائل، فللأطفال هو شكل من
الإهتمام المتمثل في هدية وبالنسبة لأولياء أمورهن هي فرصة لتخفيض النفقات على
أطفال ليسوا أبنائهم إذ أن كل فتاة تواجدت هي يتيمة يعولها أحد أقاربها يجد من
الضيق المادي إعالة عائلته الخاصة أصلاً.
دخلنا باب المدير فلفت
إنتباهي لافتة تعلن توقف التحويل للمدرسة لعدم وجود أماكن خالية، ففكرت لأي مدى
يعني عدم وجود مكان خالي في تلك المدرسة، ففي دور السينما مثلاً هذا يعني أن جميع
المقاعد امتلأت بالمشاهدين ولا يجوز أن يجلس متفرج أرضاً، أما في هذه المدرسة فما
يعنيه هذا؟ أن كل مكتب من المفترض أن يحمل إثنين يحمل الآن ثلاثة فلا يمكن أن نُحمّله
أربعاً أو يكون أن الأرض امتلأت أصلاً ولا مكان لمن يجاور الجالسين أرضاً؟ خرجت من
التساؤلات على ورقة أخرجتها مسئولة الخدمة الإجتماعية بها أسماء البنات مقسّمة في
جدول قبل أن تعاتبنا على تأخيرنا حتى أن إحدى البنات المصابة بمرض القلب أرهقها
إنتظارنا فرجعت بيتها!
اتفقنا على ما يلزم، منه
ما يمنع التصوير حتى وإن كان بآلة تصوير لهاتف محمول قبل أن يسمحوا لنا بدخول
المسرح، ساعدتنا البنات في تحميل الحقائب والأدوات المدرسية وأغلقنا المسرح علينا
ولم يُسمح لأي فتاة صغيرة بالتواجد سوى ابنة مسئولة الخدمة الإجتماعية فكانت خير
عون لنا.
المدرسة تشبه إلى حد كبير
مدارس قرى ومراكز الصعيد وإن كانت أفضل حالاً بشكل طفيف، حتى روح الناس هناك لا تختلف
كثيراً في البساطة والصراحة ولهفة الإحتياج أو الترفع عنه بشكل وقور عما رأيته في
قرى وأكوام الصعيد إلا أن الوضع هنا قاسي، حيث تشتد حدة التباين بين ما يعيشونه
وبين ما يعيشه من تناسوهم على مسافة ساعة على الأكثر بأي مواصلة ليفقدوا أي أمل
بالتغيير.
بدأنا بفتح الحقائب
وتعبئتها، عشرون كراسة، ثلاثة أغلفة من الجلاد (ثلاثون فرخ) ومقلمة تحتوي على عدد
إثنان قلم جاف، واحد مسطرة، واحد ممحاة وواحد برّاية، وبدأنا بصفهم قبل أن يطلب
منّا المدرسون بدء التوزيع.
اقترب الأطفال بمعيليهم من
الباب فاقتسموهم بعدها لكثرة العدد بين باب ونافذة المسرح، تقوم مسئولة الخدمة
الإجتماعية بمناداة الأسامي تدخل الفتاة وتحمل حقيبة كاملة فتقوم المسئولة بوضع
علامة صواب أمام اسمها، بينما تقوم ابنتها بمساعدتنا في التعبئة والنقل، وفي إنتهاء
اليوم أعلنت لنا –طبقاً للكشف- أن من تخلف عن الحضور هما بنتان فقط فحجزنا لهما
حقيبتهما وعندما حاولنا إهداء ابنتها حقيبة رفضت: "لا أنا مش من الأيتام،
أنا عندي بابا وماما جالوا لي الشنطة والحاجات، ادوهم هما" إلا إنها
أخذتها في النهاية بعد إلحاح منّا وتم توزيع باقي الحقائب المشتراة زيادةً عن
تقدير مسئولة الخدمة الإجتماعية على أبناء العاملين في المدرسة من الدادات وحارس
المدرسة.
خرجنا من المسرح –لا أحتاج
للإشارة أن كلمة مسرح تدل على مساحة وتجهيز تجعل من شقق بعضكم مسرح سياحي- لنقابل
الفتيات يحملن الحقائب على ظهورهن بمنتهى السعادة.. والثقة! بدأن الكلام معنا عن
فرحتهم بالحقيبة الجديدة أثناء مشيتهن الأقرب للرقص وهن ممسكات بأذرع الحقيبة،
وعندما سأَلت إحداهن إن كنّا سنأتي مرة أخرى تدخلت مُدرسة للرد قبل أي محاولة منّا
حتى للتفكير في رد "طبعاً هيجوا هيجوا.. هيجوا في العيد" تتبعه
بإبتسامة فهمتُ منها أنها مدركة أن من ينهي لقائه بوعد المجيء هو بالذات من يختفي
من حياة أولئك الفتيات.
دخلنا مكتب المدير مرة
أخرى لنشكره على تعاونه معنا وخرجنا، فألقيت نظرة أخرى على ورقة إعلان إمتلاء
الأماكن قبل أن أخرج، ركبنا السيارة وانطلقنا مرة أخرى إلى حياتنا، حيث الجانب
الآخر من شدة التباين.