وسط كل ما يحفل به الميدان من عجائب تجذب الإنتباه، من باعة جائلين، للافتات مضحكة ولافتات محزنة، أزياء مضحكة، وأزياء لا تقوى إلا على لفت الإنتباه دون ترك أثر في النفس، يدخل علينا شخصٌ صامتٌ يستخدم جسمه كحامل للوحة على صدره وأخرى على ظهره تحمل صورة من لا نعرفه، لاحظناه، مررنا به ثم تركناه، واتجهنا صوب ذاك الرجل الذي يلبس شوال بشكل ملفت ويصرخ بصوتٍ عالٍ؛ إحتلال – إستعمار - إغتصاب!
يمر الوقت ويبدأ النهار في الرحيل، يلحقه من يلحقه، ويبقى من يبقى، إلا أنه الميعاد الرسمي لدخول البلطجية المعلن عنهم في البيان ووسائل الإعلام المصري المختلفة، فطفقنا نسير بغير هدى إنتظاراً لدخول البلطجية بين الترقب والفضول لتمحص باقي الميدان.
ذاك وجه جديد، وذاك وجه اعتدناه، هذا يعزف العود، وهذان يعزفان أفضل منه، ذاك يقف حتى يتسنى للآخرين تصويره فيكمل هتافاته، وذاك يفضل تصويره أثناء الهتاف، فأكملنا سيرنا، حتى إلتقيناه!
كان يمشي كطيفٍ غير ملحوظٍ، فلا هو ينادي ولا هو حتى يغير سرعة مشيته، جلّ ما يأمل أن يُلاحَظ.
كانت ملامحه قوية، هادئة كمن ليس لديه ما يعكر صفو ذهنه، إن استوقفه شخص، اهتم ووقف حتى يُري من استوقفه صورة الشاب معلقة على صدره، قد يلتقط له صورة أو يمر مرور الكرام، فيكمل الرجل مسيرته الصامتة.
أتراه يجلس ليرتاح؟
أتراه يلتقط أنفاسه جراء المشي دون هدف لأجل رغبة لن تحقق؟
ألحظه
فأظنه واحد من المتاجرين بدماء الشهداء
أرى صورة الشهيد
ولا أنتظر لأرى ما يبيع إن كان يبيع
إلا أن الحقيقة مرت على ذهني
وكأنها لم تمر
ينساب الوقت
ويختفي الرجل بين الوجوه
فأنساه
وينساني
إلا أنه يعاود الظهور
كقدرٍ يلاحقني
لا يصدر عنه ما يجذب أكثر مما يصدر عن ملاهي الدنيا
أعتاد عليه
فلا أهتم
إلا أن الحقيقة لحوحة
لا تقبل الرفض
فتستمر بالقفز في عدم الإستقرار
من خلال كيان هامد
ألحظ الشبه بين وجه الشهيد
ووجه حامله
أتربطهم رابطة دم؟
تنفتح أعيني
أقترب صوب الرجل
ومعي من معي
أنظر في عينين
يتراقص فيهما
سلامٌ ممزوجٌ بالألمِ
يمدون يدهم، فيعزونه
أمد يدي وأسأله
أهو ابنك؟
بإماءة رأسٍ يرد
يقع من خلالها سلام عينيه
ولا يترك سوى رقصات الألم
تبزغ على سطح روحه
لا يقْدم الإنسان على ما هو سيء
إلا لما هو أسوأ
ولا يدفن الابن اباه
إلا إن مات الابن، وبات الدفن
دور اباه
أتراه يندفع صوب العسكر
فتترمل زوجته من بعده؟
أيبكي أم يثور لدى وصم
الثوار بالبلطجة؟
أتراه اعتاد المنزل
بدون ولده؟
أيقبل أم ينفر من لقب
أبي الشهيد؟
* * *
إن دخل الميدان يوماً
ولم يجد من الأحياء ما يكفي لإسترجاع حق ابنه
العاجز عن استعادته
يومئذ يدرك أن ابنه قد مات!
هكذا قال صديقي...